ظاهرة التناوب اللغوي Code Switching هي قضية تشغل بال فئات متعددة من المجتمع، كالآباء، المعلمين، علماء الاجتماع، السياسيين وغيرهم. إلا أنها تهم بالخصوص مدرسي اللغة الإنجليزية في بلدان تستخدم الإنجليزية كلغة أجنبية.
السبب ببساطة أن هذه الظاهرة تورط المعلمين في جدل لا ينتهي حول جدوى التناوب اللغوي في فصول الدراسة. هذا المقال يحاول حصر هذا الجدل في نقاط واضحة على شكل أسئلة واضحة وبسيطة.
ماهو التناوب اللغوي؟
التناوب اللغوي هو التبديل بين لغتين أو أكثر بين شخصين يتحدثان أكثر من لغة. تحدث هذه الظاهرة عندما يعتقد المتحدث بأن استخدام كلمة من لغة أجنبية ستكون أكثر ملائمة، سواء على المستوى اللغوي أو الثقافي.
أين ينتشر التناوب اللغوي؟
ينتشر أكثر ما يمكن في المجتمعات متعددة اللغات. فأمريكا مثلاً يتحدث الشعب الإنجليزية والأسبانية. وفي الهند يزيد عدد اللغات على المائة. ولكن قد يحدث أن يتنقل المتحدث بين لغتين أو أكثر حتى في الدول التي لا تتحدث إلا لغة واحدة، كالسعودية مثلاً والتي تستخدم العربية في الكلام والتواصل. ولهذه الظاهرة في دولة مثل السعودية أسباب اجتماعية أحياناً وعملية (براجماتية) أحياناً أخرى.
وماذا عن فصول الدراسة؟ هل التناوب اللغوي موجود؟
نعم موجود، ولكنه يُحارب وغير مرغوب على أكثر من مستوى. فدولة كالسعودية، أو أي دولة عربية أخرى، تعتز بلغتها العربية وتؤمن بأن هوية الوطن مرتبط بلغتها الأم. ولذلك فإن كثرة إدخال الكلمات الإنجليزية مثلاً للكلام العربي، قد يُنظر لها على أنها تعدي على الهوية العربية. كذلك ومن ناحية تربوية، فإن إدخال اللغة العربية في حصص اللغة الإنجليزية هو نوع من تشويه طرق تدريس اللغة الإنجليزية وإبطاء لعملية تعلم اللغة الإنجليزية. السبب ببساطة أن توجه معظم طرق التدريس هو توفير بيئة لغة إنجليزية داخل الفصل مشابهة للتي توجد خارج الفصل. المفارقة اللطيفة هنا أن التناوب اللغوي هو ظاهرة تحدث خارج الفصل، فما الذي يجعل التربويون يرفضون التناوب اللغوي وهو ظاهرة طبيعية تحدث بشكل طبيعي خارج الفصل؟ الشاهد هنا أنه طالما أن توجه طرق تدريس اللغة هو “تحويل الفصل لنموذج حقيقي وطبيعي لما يحدث خارج الفصل”، فلماذا يتحفظ بعض التربويين على استخدام التناوب اللغوي في الفصل وهو يحدث فعلاً وبشكل طبيعي خارج الفصل؟ لابد أن هناك أسباباً أخرى.
ما هي هذه الأسباب التي تجعل التناوب اللغوي مرفوض داخل الفصل؟
الأسباب كثيرة وأبرزها وأقواها هو مجموعة من الاعتقادات، والتي للأسف تحولت لمسلمات، تقول أن استخدام لغة الطلاب الأولى ستؤخر من عملية تعلمهم اللغة الثانية. بلا شك أن مثل هذه المسلمات لها مؤيدون ورواد حملوا على عاتقهم ترسيخ مثل هذا الاعتقاد. فعبارة “التقهقر للغة الأولى” هي عبارة كانت أشبه بالتهمة التي توجه للمعلم الذي يستخدم لغة الطلاب الأولى في حصص تعلم لغة ثانية. أبرز من حارب التناوب اللغوي، أو على الأقل أبرز من كانت نظريته تقف في وجه هذه الظاهرة، هو كراشن (Krashen) صاحب مفهوم المدخلات القابلة للاستيعاب (Comprehensible input). يقول هذا المفهوم أن الطالب يستطيع أن يتعلم من خلال تزويد حصيلته اللغوية في اللغة الثانية بمعلومات بسيطة قابلة للاستيعاب. وتقول نظرية كراشن، طالما أن الطالب يستطيع أن يتعلم من خلال اللغة الثانية وبتدرج وبطء شديدين، فليس هناك داعي من إفساد هذا التعلم بإدراج مفردات من لغته الأم. لا داعي، بالأحرى، من “حشر” اللغة الأولى طالما أن الطالب يتعلم باستخدام اللغة الثانية السهلة والمفهومة. استخدام اللغة الأم في تدريس اللغة الثانية قد تجعل الطالب يركز على تراكيب اللغة، منطق اللغة، طريقة تكوين اللغة الثانية أكثر من تركيزه على معاني ودلالات واستخدامات اللغة الثانية.
وهل سيطر مفهوم البيانات القابلة للاستيعاب على طرق تدريس اللغة؟
نعم، وجداً. بل أن التناوب اللغوي يُحارب أيضاً لأنه يجسد طريقة تدريس قديمة لا يحبها التربويون المعاصرون: طريقة القواعد والترجمة Grammar Translation Method. هذه الطريقة التي تركز كثيراً على تراكيب اللغة الهدف (الإنجليزية مثلاً) وتتهم كثيراً بأنها تتسبب في تهميش استخدامات اللغة بشكل طبيعي وتعلم الطالب على قواعد اللغة الهدف على حساب المعنى. هي معركة بين طرق التدريس تلخص المفارقة الثنائية والمسماة بـ Meaning vs Structure. أو مفارقة المعنى والتركيب. قديماً كان التركيز على التراكيب اللغوية، فهم منطق اللغة الهدف، التعلم لتركيب جمل صحيحة كقاعدة ومنتظمة كتركيب لغوي. التوجه في أواخر القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين كان منصب على المعنى والتواصل. ولذلك، فإن من شروط التواصل الصحيح والفعال هو تهميش اللغة الأم وبالتالي أصبح التناوب اللغوي هو الآخر محارب تماماً. إلا أن الاعتراض الذي يمكن أن يوجه لمثل هذه التوجهات الحديثة في تدريس اللغة هو: “هل فعلاً التناوب اللغوي لا يناسب الطلاب، وهل هو يضر بتعلمهم طرق التواصل باللغة الهدف؟”. هذه الأسئلة هي التي جعلت من التناوب اللغوي قضية القضايا في أروقة الاكاديمية التربوية الخاصة باللغات.
إذن، هل هناك بعض المؤيدين لاستخدام التناوب اللغوي في فصول تعلم اللغات؟
نعم، وأبرز هؤلاء المؤيدين هو متخصص تربوي اسمه ماكارو Macaro والذي قدم مقالة كاملة ناقش فيها أصل وفصل ظاهرة التناوب اللغوي وأبرز بعض فوائدها في فصول تعلم اللغة عند البالغين. أبرز ما قدمه ماكارو هو التالي:
1- التناوب اللغوي ظاهرة طبيعية تحدث بين الطلاب والبشر ككل فلذلك هي مكون طبيعي يجب أن يحدث في الفصل.
2- استخدام لغة الطلاب الأصلية يقوي العلاقة بين المعلم والطالب.
3- إحدى استراتيجيات التواصل والتفاوض على حل التمارين بين الطلاب (الذين يتحدثون نفس اللغة) هي استخدام لغتهم الأم. لذلك هم يتواصلون ويحددون المهام لغتهم الأم لفهم تركيب اللغة الهدف واستيعاب معانيها. إذن التناوب اللغوي هو وسيلة مساعدة تستخدم خلال حل التمارين.
4- التناوب اللغوي يساعد المعلم في شرح الإجراءات المعقدة والتي قد تصعب على الطلاب فهم طريقة حل التمارين والمشاركة في حوارات باللغة الهدف. هي وسيلة لتمهيد التمارين والنشاطات للطلاب.
5- قد تستخدم اللغة الأم داخل الفصل لتعديل سلوك طالب ما. فمن الصعب أن يلتفت الطالب لتوجيهات صارمة باللغة الهدف التي لم يفهم منها الكثير بعد.
6- ترجمة بعض المصطلحات المجردة. لا تحتاج المسألة إلى 5 دقائق يشرح فيها المعلم مصطلح مثل الولاء، الوطنية، التحزبية باستخدام اللغة الهدف. كل ما يحتاجه هو نطق كلمة عربية واحدة ليستوعب الطلاب المعنى ويكوّنوا قاموسهم الثنائي الذهني الخاص بهم.
7- بسبب التباين الكبير بين بعض اللغات، كالعربية والإنجليزية، فإن استخدام اللغة الأم لمقارنة هاتين اللغتين تعتبر وسيلة قوية لترسيخ هذه الفروق ومساعدة الطلاب في الاقتراب خطوة من اللغة الهدف.
8- تخفف من الضغط الذي يعانيه بعض الطلاب داخل الفصل جراء الاستخدام المفرط للغة الهدف. رمي جملة، عبارة، كلمة عربية مثلاً في فصل من الطلاب العرب، قد يخفف من ضغط عمليات التحليل والاستيعاب التي يعيشها الطالب طوال الفترة التي يسمع فيها فقط اللغة الهدف.
وهل أنت من المدافعين عن التناوب اللغوي بشكل مطلق؟
التناوب اللغوي في فصول تعلم اللغة قد يساء استخدامها فعلاً. قد يبالغ في إدراج اللغة العربية في حصص تعلم اللغة الإنجليزية. والحل ليس في منع التناوب اللغوي بل في تقنينه وتصميم نموذج يستفيد من هذه الظاهرة كأداة مساندة لتعلم اللغة. المقال حاول فقط استعراض حالة التمرد التي رفع لواءها تربويون رفضوا فكرة لطالما اعتبرت حقيقة مطلقة. رفضوا مسلمات منعت المعلمين من استخدام أداة مهمة في فصول تعلم اللغات بحجج قد تكون معتبرة في وجهة نظر الكثير. المقالة هي تعريف بظاهرة التناوب اللغوي التي قد تكون أداة عظيمة لتعلم اللغات، إن استمرت النقاشات حول أهميتها، عيوبها وطرق تنظيمها.
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *