يعرّف قاموس كامبريدج الشهير كلمة “minimalism” بأنها أسلوب يتم اتباعه في الفن والتصميم والمسرح يعتمد على تقديم الأعمال بأقل عدد من العناصر والأشكال والألوان.
ففي منتصف القرن العشرين، ازدادت نزعة الناس الاستهلاكية نتيجة للظروف التي عاشوها أثناء الحروب ونقص الإمدادات حيث لم تتوافر لهم احتياجاتهم. وكردة فعل لهذا التطرف في الاستهلاك وتحديدا في منتصف الستينيات والسبعينيات بدأت موجة “التخّفف” أو التقليلية كما يسميها البعض بالازدهار أولا في المجال الفني والتصميمي من خلال الفنانين الذين آمنوا بهذا المبدأ واستعانوا به في تصميم أعمالهم الفنية. لذا يمكننا القول أن هذا المفهوم أو هذه الفلسفة بدأت في الفن والتصميم في بادئ الأمر، ثم انتقلت إلى أسلوب الحياة الفردي داخل المنزل. ومن هنا تجاوزت هذه الفلسفة الفن وأصبحت تصف البساطة والتقليل من تملك الأشياء المادية والمعنوية كذلك. وأصبح معنى أن تكون متخففا أي أنك تعطي القيمة لوقتك وعلاقاتك وممتلكاتك، وأن تكون واعيا بأهمية وحاجتك لما لديك، حيث تتخلى عن ثقافة الاستهلاك والاستعراض المادي.
كيف انتقل هذا المفهوم من أسلوب الحياة إلى التعليم؟ وكيف نقوم بتطبيقه داخل الفصول الدراسية؟
مع تبني كثير من الناس في الغرب وحتى لدينا لهذا المفهوم في عيش حياتهم، وانتشار ثقافة التخفف عبر الوثائقيات ومواقع التواصل الاجتماعي، آمن من يعمل من هؤلاء الناس في التعليم بنقل هذا الأسلوب إلى فصولهم الدراسية مع الطلاب والمقررات والواجبات وغيرها من الأعمال التي تقع على عاتق المعلم. ونحن بأنفسنا قد نكون اتبعنا مثل هذا الأسلوب دون وعي منا أو إداراك لمفهومه وآثاره. من خلال رفضنا لتكديس الأشياء داخل الفصل وحرصنا على ترتيبه وتنظيمه، أيضا من خلال تصميمنا لخطط دروس تتضمن استراتيجيات ووسائل مناسبة للدرس وتحقق أهدافه، ورفضنا لحشو الدرس بكم هائل من الإجراءات والوسائل والاستراتيجيات التي لا تخدم الأهداف وربما لها أثر سلبي على تلقي الطلاب واكتسابهم للمهارات المطلوبة.
أولا: البيئة الفيزيقية أو المادية للفصل:
حجم الفصل مقارنة بحجم مايحتويه من أثاث مدرسي ووسائل وأجهزة وأوراق معلقة على الحائط وملفات وأقلام وأوراق طباعة وغيرها. عادة مانكدَس الأشياء ظنا منا بأننا سنحتاج لاستخدامها لاحقا، وهذا ما لا يحدث.
إن أول مايسأله المعلم لنفسه قبل الدخول للفصل والبدء برحلته التعليمية، كيف أخلق بيئة تعليمية جاذبة للطلاب؟ وتكمن إجابة السؤال ليس في البيئة المعنوية فحسب بل في البيئة المادية كذلك. كلما كان الفصل مريحا وبسيطا ويحتوي على مايحتاجه المعلم فقط، أصبح جذب الطلاب للتعليم وزيادة دافعيتهم أسرع وأسهل حيث يقل التوتر والتشتت. فكثرة الأشياء المعروضة مرئيا داخل الفصل يضر بتعلم الطلاب الصغار بسبب عدم تطور قدرتهم لتجاهل المشتتات (Fisher, Godwin, and Seltman, 2014).
وبرأيي أن هذا الأمر لا ينطبق على الطلاب وداخل المدارس فقط، فالمكان المريح والمصمم تصميما بسيطا وهادئا يبعث طاقة إيجابية ومريحة للنفس ويساعد على التركيز. لذلك تخلَص من الأشياء الملقاة على أرفف الأدراج والمعلقة على الجدران وكل تلك الأمور التي لا تحتاجها أو نادرا ما تحتاجها. قم مثلا بتصنيف الأشياء التي تستخدمها بصفتك معلما إلى قائمة من ثلاث تدرجات: أحتاجها كل يوم – أحتاجها أحيانا – أحتاجها نادرا، واحتفظ داخل فصلك بما تحتاجه كل يوم. يتطلب منك هذا الأمر تبني بعض العادات اليومية مثل إفراغ الأدراج من الأوراق والقصاصات، التأكد من جودة الأدوات ليوم غد والتخلص من التالف، ترتيب المقاعد الدراسية، واستبدال الأوراق والملفات بالأدوات التقنية المساعدة. إن كنت تشترك مع بقية المعلمين في الفصل يصبح اعتماد هذا الأسلوب ضروريا جدا.
ثانيا: عقلية المعلم وأدواره ومهامه:
عملية التغيير ليست سهلة وتتطلب وقت كبير خاصة إن كان التغيير يستهدف عقل الشخص وتفكيره. ولكن مع الممارسات اليومية وتبني عادات جديدة يمكن للشخص أن يتطوّر وينمو بشكل مختلف وجيد. إن أسلوب التخفف لا يعني الكسل والتخلي عن واجباتك بل كيف يمكن للمعلم أن يحقق الفائدة باتباع الطرق الصحيحة.
على سبيل المثال تذكر المعلمة تيفاني كار وهي تحمل درجة الدكتوراة في التربية في مدونتها التعليمية أنه عندما يطلب المعلم من الطلاب تنفيذ مشروع ما أو مهمة معينة، لابد أن يسأل نفسه: ما الأهداف التي سوف يحققها هذا المشروع؟ هل المشروع مرتبط بأهداف المقرر الدراسي؟ كيف ستكون مخرجات الطلاب لو لم ينفذوا هذا المشروع أو هذه المهمة؟ هل هذا الواجب ضروري ويحسّن تعلم الطلاب؟ هل يمكنني تطوير المشروع بحيث يركّز أكثر على الفهم العميق للطلاب؟
إن طرح مثل هذه الأسئلة التأملية يساعد المعلم على استبعاد المهام التي لا فائدة حقيقية منها، ويجعلنا نركّز فقط على ما يحقق الهدف ويجوّد المخرجات التعليمية. ولا يتعلق الأمر بالمهام والواجبات فقط بل حتى في عرض الدرس وشرح المحتوى وكمية الصور والفيديوهات والمعلومات التي نعرضها على الطالب يوميا.
ولأن فلسفة التخّفف تستهدف التخلّص مما هو غير ضروري وغير ذو قيمة، يمكننا في التعليم تطبيقها في الأنظمة والسياسات والأفكار التربوية التي لم تعد ذات جدوى. مثلا إستنزاف الطلاب في اختبارات وواجبات عشوائية لأهداف بعيدة جدا عن تحسين المخرجات، كأن يكون الهدف فرض السيطرة عليهم وإدارة الصف أو عقوبة لسوء تصرف! أو مثلا إغراقهم بالأوراق والمشاريع والاستراتيجيات المشتتة للانتباه وذات الأثر الضعيف والتي لا تحقق الأهداف، وتقديم الـ feedback أو ما يمكننا ترجمته بالانطباعات والأراء حول أدائهم التعليمي بشكل مستهلك ومتكرر وغير مرتبط بأدائهم الفعلي. بالإضافة إلى التفكير والتأمل بنوعية الأنشطة التي نقدمها للطلاب داخل الفصل، هل ترتبط تلك الأنشطة بأهداف الدرس؟ هل تستهدف مهارات التفكير العليا؟
وبما أننا مؤخرا ونظرا لجائحة كورونا قد اعتمدنا على التكنولوجيا في التعليم والوصول للطلاب لابد أن نسأل أنفسنا عن أهداف التطبيقات والأدوات التقنية التي نستخدمها، هل تخدم الأهداف التعليمية؟ هل هي ضرورية حقا؟ لماذا يجب أن نفرض على الطالب تحميلها والعمل بها؟ إن كانت الإجابة غير مرضية فينبغي التخلي عنها حالا.
مبدأ التخفف و المقررات الدراسية
نعيش اليوم في عالم تتضاعف فيه المعلومات خلال سنوات قصيرة جدا، مما يتطلب من العاملين في التربية وتطوير المناهج تحديث المقررات الدراسية وأساليب التدريس والأنشطة التعليمية بانتظام بما يتلائم مع هذا التسارع المعرفي والتقني الهائلين ويفي بالمتطلبات. بصفتنا معلمين نتبع نظاما تعليميا مسؤولا عن توصيف المقررات الدراسية وطباعة الكتب وتوزيعها ونحن نقوم بتدريس تلك الكتب وفق الخطط الزمنية فإننا لا نملك السلطة على تقليص المحتوى والتحكّم في كثافته، خاصة مع وجود الخطة الدراسية ذات الثلاثة فصول المكونة من ثلاثة عشر أسبوعا لكل فصل دراسي، مما يلزم المسؤولين بالتركيز في المقررات الدراسية على المهارات الناعمة والابتعاد عن الحشو المعلوماتي. بهذه الطريقة يتحول هدف المعلم من “إنهاء المقررات الدراسية” إلى “مخرجات تعلم جيدة جدا”.
نستطيع القول أن التخّفف يحقق التوازن الذي نحتاجه في عالم متسارع. ويمنحنا الهدوء في عالم ممتلئ بالفوضى والضجيج. خاصة ونحن مقبلون على عام دراسي جديد بعد الجائحة التي عصفت بنا فإننا نحتاج لما يعيد تنظيمنا وترتيب أولوياتنا ويساعدنا على التخطيط الجيّد حتى وإن تطلب الأمر منا التنازل عن بعض الأفكار المهترئة. مع ضرورة التنبه إلى أن التخفّف في التعليم أسلوب لا يمكن حصر تبنيه وتوظيفه على المعلم فحسب، بل جميع عناصر العملية التعليمية البشرية والمادية. حتى أنه يتطلب جهدا كبيرا من الطالب نفسه كي ينجح توظيفه.
المراجع:
Thom, Jamie. (2017). How to become a minimalist teacher. https://www.theguardian.com/teacher-network/teacher-blog/2017/sep/01/how-to-be-a-minimalist-teacher
Fisher, A. V., Godwin, K. E., & Seltman, H. (2014). Visual environment, attention allocation, and learning in young children: When too much of a good thing may be bad. Psychological Science, 25, 1362-1370. doi:10.1177/0956797614533801
Carr, Tiffany. (2019). The Insider’s Guide to Becoming a Minimalist Teacher. https://joyinteaching.com/minimalist-teacher/
Photo by Tatiana Syrikova from Pexels
كتابة:
نورا خالد العتيبي
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *