انتشر مؤخراً تداول وسائل الإعلام والأخبار قصص الاعتداء والتحرش الجنسي الذي انتشر في أرجاء المناطق والدول أجمع,
وعلى سبيل المثال القصة التي أصبحت قضية رأي عام قصة الطفل عدنان ذو الإحدى عشر عاماً, الذي استدرج من قبل المعتدي ذو الصلة بعائلة الطفل من خلال خداع بأن لديه الدواء الذي طلبه والد الطفل, واعتدى عليه بوحشية ثم قتله. وطالب المجتمع بإقامة أقصى العقوبات على المعتدي ليكن عظة وعبرة لأمثاله. وآخرين طالبوا بتقديم التربية الجنسية الصحيحة للأطفال، ولا أرى أنها اقتصرت قضية التحرش على الطفل عدنان بل أجد أن موضوع التحرش الجنسي ما زال يتفاقم ما لم يُكن هناك حل جذري لردع النفوس الخبيثة وتوعية الطفل لحمايته ( عبيدات و طوالبة ,2013 ؛ عمري , 2020) .
نظراً إلى أن أكثر ضحايا التحرش الجنسي هم الأطفال، وضحاياه من الإناث بقدر أكبر من الذكور، أشارت إحصائيات وزارة الداخلية في المملكة العربية السعودية أن نسبة التحرش بالأطفال )22,5 %)، حيث أن كل طفل من أربعة أطفال قد تعرض للتحرش الجنسي، وأغلب المعتدين عليهم جنسياً هم من ذوي القٌربى والأصدقاء بنسبة (90 % ). ومن رأيي لا أجدها نسبة مؤكدة كوننا مجتمع متحفظ تحكمنا العادات والتقاليد ضمن إطار اجتماعي يخاف الفضيحة وجلب العار, وعلاوة على ذلك أرى أن الإحصائيات لمن توجه وتقدم ببلاغ لمراكز الشُرطة أو الجهات المسؤولة لمساندة الأطفال المتعرضين للتحرش, وفي الحقيقة ما خفي كان أعظم (البو علي, 2014, كما ورد في الجبيلة و الطريف, 2017 ) .
يتبادر إلى ذهني تساؤلات حول الأسباب التي تجعل المعتدي جنسيا يتحرش بطفل, لست هُنا أهون أمر الجريمة الشنعاء لأصحاب النفوس الخبيثة سواء على طفل أم غيره, ولكن لمَ الأطفال أكثر فئة يعتدى عليهم جنسيا؟ , في رأيي أنها قد تعزى إلى أن الطفل سهل الاستدراج كما حصل في قصة عدنان, وقد يُهدد الطفل من قبل المعتدي أن يصيبه مكروه أو يؤذي أحد أفراد عائلته في حال أن أفصح عن الأمر فيتمكن الخوف من الطفل. بالإضافة إلى أن الطفل قد لا يعي بسبب نقص المعرفة والتوعية من قبل الأسرة بحدود الضوابط والعلاقات الاجتماعية، استحضرني موقف لإحدى الدورات التربوية التي حضرتها, ذكرت مُقدمة الدورة موقف في إحدى دوراتها السابقة عندما سألت الحاضرات ذوات الأربعون والخمسون عاماً سؤالاً, من منكن قد تعرض للتحرش الجنسي في طفولته؟ ومن كان المعتدي؟ , واكتفت بأن تجبن الحاضرات بكتابة الإجابة في ورقة ووضعها في صندوق بدون التعرف على هوية المجيبة, فاتضح من إجابتهن أن غالبيتهن قد تعرضن للتحرش الجنسي في طفولتهن ما عدا خمسة إلى ستة لم يتعرضن لذلك , وكان غالبية المعتدين عليهن من الأقارب والمعارف ,وذلك على نقيض ما كنت أظنه حيث كنت أظن سابقاً أن التحرش الجنسي بالأطفال أمر مستجد لم يسبق له الوجود, أو قد كان بنسبة بسيطة لا تكاد تذكر كوننا مجتمع محافظ, حينها بدأت أتخيل موقفهن حينما ظل سرهم الدفين معهن حتى أصبحن أمهات و جدات ولديهن من الأطفال والأحفاد , وأعتقد انه ظل السر في بئر جوفهم بسبب خوفهن من الفضيحة والعار , أو لعدم وعيهن وإدراكهن التي تعزى لنقص المعرفة بالمواقف التي تعرضن لها.
واستدلالا على ذلك أشارت دراسة الباحثة مسعودي (2018) أن التحرش الجنسي بالأطفال يعزى إلى نقص في توعية الطفل بالتربية الجنسية لمختلف المراحل العمرية وعلى وجه الخصوص صغار العمر ,وافتقار المؤسسات التعليمية والتربوية دور تقديم التوعية للطفل, وأضيف على ذلك دور الإعلام فيتابع الطفل القنوات المرئية بدون رقابة من الوالدين, وكون الطفل جُبل على حب الاكتشاف غالباً ما يطرح أسئلة عن كل ما يثير تساؤلاته , ومن خلال تجربتي في مهنة التعليم لمرحلة الطفولة المبكرة , قدمت لمرحلة روضة ثاني لأطفال بعمر 5 سنوات حلقة عن المولود الجديد في وحدة العائلة, بدأت أتحدث حينها عن مراحل نمو الجنين وعن قدرة الله في تكوينه , ما زالت أتذكر تفاعل الأطفال للمفهوم الجديد, وفي نهاية اليوم تواصلت إحدى أمهات الأطفال على مُشرفة قسم رياض الأطفال تتساءل عما قُدم في الحلقة, لا أخفي عليكم حينها تخوفت كونها أول سنة وظيفية لكني متيقنة أنني أوصلت المعلومة بانتقاء عبارات تربوية تتناسب مع مرحلتهم العمرية , وبعد النقاش وعرض ما قدم في الحلقة اتضح أن الطفلة ذكرت لوالدتها طريقة الولادة الطبيعية الصحيحة , مع العلم أنني لم أطرح طريقة الولادة , ومن حينها أدركت أن الطفل واعي مدرك ومطلع على وسائل الإعلام بدون رقابة كافية من الوالدين , وأصبح مصدر معلوماته وإجابات تساؤلاته من الإعلام و القنوات المرئية والأقران .
أرى أهمية التربية الجنسية جاءت من منبع حاجة المجتمع والطفل وتساؤلاته, كما أشارت Banunnah (2018) مدى أهمية التربية الجنسية بدءاً منذ الطفولة المبكرة, وأثرها الإيجابي على الطفل لتتكون شخصية سليمة , وتجعله مدرك وواعي حيال حدود وضوابط العلاقات الاجتماعية, وقادراً على حماية ذاته بعد الله, وأن يتصرف بالطرق الصحيحة حيال المواقف التي قد يتعرض لها ولا نكتفي بذلك بل تكمن أهمية التربية الجنسية في بناء ثقة الطفل بذاته , وأرى أيضا أن التربية الجنسية تجعل الطفل قادر على فتح باب النقاش وطرح التساؤلات مع أسرته بدون عائق الخوف والخجل من ردة فعل الوالدين أو المعلمين .
واهتم الإسلام بجميع جوانب حياة الإنسان جميعها ونالت التربية الجنسية اهتمام كبير من الدين الإسلامي ,حيث أشار الإسلام إلى تنشئة الفرد تنشئة صالحة سوية من خلال القران الكريم والسنة النبوية , وقد تضمنت التربية الجنسية مفاهيم أخلاقية وقيمية وجنسية تتماشى مع الغريزة السوية لبناء طفل ذو قيم وأخلاقيات يراقب الله في أعماله ,وبناء على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مُروا أولادَكم بالصلاةِ وهم أبناءُ سبعِ سنينَ واضربوهُم عليها وهمْ أبناءُ عشرٍ وفرِّقوا بينهُم في المضاجعِ ) [صحيح أبي داود : 435 ]. ذكر أحد أمور التربية الجنسية وهي أن ينام كل طفل على فراش مستقل عن أخيه أو أخته وغيرهما , حيث اهتم الإسلام بالتربية الروحية , والخُلقية و الاجتماعية والأسرية , فمنذ الصِغر نربي الطفل على الطهارة و النظافة , والاستئذان قبل دخول الخلاء , وقبل دخول الأماكن الخاصة كغرف النوم , والتربية على ستر الجسد , ويعزى ذلك إلى اهتمام الإسلام بالتربية الجنسية منذ الطفولة المبكرة , لحماية الطفل وضبط السلوكيات الجنسية , واكسابه الدور الاجتماعي المناسب لهويته الجنسية بدون خلل في ذلك ( راشد, 2009) .
وعلى الرغم من أهمية التربية الجنسية إلا أن هناك جدل حول تقديمها للطفل ,وقد يُعزى إلى تنشئتنا الاجتماعية , وضيق مفهوم التربية الجنسية للمعارضين نظراً لفكرة خاطئة قد تراودهم بالإضافة لقلة المعرفة, على سبيل المثال اعتقادهم أن التربية الجنسية ستخل ببراءة الأطفال وتفتح أبواباً مغلقة, فكما أشارت دراسة et al Robinson (2017) إلى مدى مخاوف الوالدين من طرح التربية الجنسية نظراً لصراعها مع القيم, وتعتبر في نظرهم إحدى المحرمات الاجتماعية, ولذا أرى أن الجدل المُثار حول موضوع التربية الجنسية في مجتمعنا يعزى لوجود التباس ما بين الثقافة الجنسية و التربية الجنسية. إذ تعد الثقافة الجنسية عملية تعليمية هدفها تثقيف فئة المراهقين من خلال توفير معلومات تختص بالأمور و المسائل الجنسية والعلاقة الزوجية وفقا للعادات والتقاليد في حدود ضوابط مجتمعنا, أما التربية الجنسية وهو المفهوم الذي أتبناه في مقالتي هذه هي عملية تربوية تبدأ منذ الطفولة المبكرة وتستمر لجميع المراحل النمائية التي يمر بها الفرد, وهدفها غرس القيم مما تسهم في ضبط سلوك الطفل, التي من خلالها تطرح مفاهيم التربية الجنسية بشكل متدرج تبعا لخصائص المرحلة العمرية (بنونه ,2021) .
إضافة إلى ذلك التربية الجنسية السليمة هي حق من حقوق الطفل أن تُقدم له , فلنعطي كل ذي حق حقه ونمنح الطفل طفولة صحيحة بتربية جنسية سليمة , نجد مدى اهتمامنا غالباً بالجانب التعليمي والاجتماعي والجانب الترفيهي للطفل ونتناسى حقه في التربية الجنسية, وتعرف التربية الجنسية بنونة ( 2021 ) أنها عملية تربوية مدروسة لا تطرح بعشوائية, وتبدأ منذ عمر مبكر من مرحلة الطفولة وتستمر لبقية المراحل النمائية, بهدف إمداد الطفل بمعلومات سليمة صحيحة من مصدر موثوق فيما يختص بالأمور الجنسية المناسبة لمرحلته العمرية ضمن الإطار الديني والثقافي للمجتمع ليكتسب بها اتجاهات سليمة . وكوني أم ومتخصصة في الطفولة المبكرة أرى أن السن المناسب في البدء بإعطاء التربية الجنسية منذ عمر الطفولة المبكرة كونها مرحلة الأساس ونظراً للنسب العالية للتحرش بفئة الأطفال تكمن أهمية التربية الجنسية لحماية الطفل من التحرش الجنسي .
لذا أرى أن تقديم التربية الجنسية للطفل دور ومسؤولية كلاً من الأسرة و المؤسسات التربوية من خلال استخدام الطريقة الصحيحة بما تتضمنه من مفاهيم تتناسب مع خصائصهم العمرية, وأكد كلاً منet al. Robinsona ( 2017 ) و Makol-Abdul et al. (2009) على أهمية تقديم التربية الجنسية للأطفال من خلال الشراكة التعاونية ما بين الأسرة والمؤسسة التربوية والمعلمون بما يتماشى مع التعاليم الدينية. ولذا أؤيد مبدأ الشراكة في التربية الجنسية لتحقيق مبدأ الاستقرار في جوانب الصحة النفسية والجنسية والاجتماعية للطفل.
وفي الختام انطلاقا من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( كُلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) [أخرجه البخاري : برقم 893] , أجد على عاتقي مسؤولية عظيمة فأنا أخت كبرى ورعيتي أخوتي الصغار, وأم ورعيتي أطفالي, وكذلك معلمة ورعيتي طلابي, أدرك أن التربية الجنسية تقوم على الشراكة بين الأسرة والمعلم , ليجد الطفل أبواب الأسرة و المدرسة مفتوحة له ومرحبة بباب تساؤلاته, ليخرج لنا طفل واعي قادر على حماية نفسه بعد الله لردع الأنفس الخبيثة, ونموه نمواً مكتملاً من جميع جوانب الصحة النفسية والاجتماعية والجنسية, ولابد أن ندرك أن ثقافة العيب حيال موضوع التربية الجنسية حان وقت اندثارها, فالزمن يمضي والأمور تتغير مجراها, وما لنا إلا نواكب التطور بالكثير من الحرص والرقابة اتجاه أطفالنا, أخيراً لنسعي لطفولة آمنة بالتربية الجنسية .
كتابة: شروق عبيد الرايقي
باحثة ماجستير تعليم وتعلم في الطفولة المبكرة
بجامعة الملك عبدالعزيز
المراجع:
أخرجه أبو داود, صحيح سنن أبي داود , كتاب الصلاة , باب متى يؤمر الغلام بالصلاة, حديث رقم 435 .
البخاري, محمد بن إسماعيل . الجامع الصحيح .كتاب الجمعة , باب ما جاء في الجمعة في القرى والمدن، حديث رقم 893 .
بنونة , أمل محمد .(2021) . التربية الجنسية في مرحلة الطفولة المبكرة . دار الفكر .
الجبيلة , الجوهرة فهد و الطريف , غادة عبدالرحمن .( 2017). أسباب التحرش الجنسي بالأطفال , و آثاره , و طرق علاجه : دراسة سوسيونفسية .مجلة جامعة الملك خالد للعلوم الإنسانية , 26 (2), 167 -191 .
راشد ,أنور أحمد .(2009).التربية الجنسية في الإسلام .مجلة بحوث ودراسات العالم الإسلامي,(5), 233- 278
عبيدات , هاني حتمل و طوالبة , هادي محمد . ( 2013) . اتجاهات معلمي الدراسات الاجتماعية نحو تدريس التربية الجنسية في المدارس الأردنية . مجلة العلوم التربوية , 40 (4) , 1306- 1317 .
عمري , أسماء ( 18 سبتمبر 2020 ) . فاجعة الطفل عدنان تجدد النقاش حول التربية الجنسية للأطفال . سكاي نيوز عربية . https://www.skynewsarabia.com/middle-east/1377061.
مسعودي , إيمان . (2018) . التحرش الجنسي بالأطفال وآثاره في الكبر [رسالة ماجستير غير منشورة ] . جامعة العربي بن مهيدي أم البواقي .
Banunnah, A .(2018). SEX EDUCATION IN THE KINGDOM OF SAUDI ARABIA: AN EXAMINATION OF HOW SEX EDUCATION CAN BE IMPLEMENTED IN EARLY CHILDHOOD EDUCATION [Unpublished Doctoral dissertation] . UNIVERSITY OF SHEFFIELD .
Makol-Abdul ,P ., Nurullah , A ., Imam , S ., Abd. Rahman, S.( 2009) . Parents’ Attitudes towards Inclusion of Sexuality Education in Malaysian Schools . International Journal about Parents in Education , 3 (1) , 42 -56 .
Robinsona ,K ., Smithb ,E & Daviesa , C .(2017) . Responsibilities, tensions and ways forward: parents’ perspectives on children’s sexuality education . Sex Education , 17 (3) , 333- 347 . http://dx.doi.org/10.1080/14681811.2017.1301904 .
Savitry , W., Yapina, P., Indriati , E. ( 2017) . Sexual Education Knowledge for Early Childhood . Advances in Social Science, Education and Humanities Research , 58 , 446- 450 . https://dx.doi.org/10.2991/icece-16.2017.78 .
Image from: yomecuido.com.peI
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *