قراءة في التخطيط التربوي
يعد التخطيط التربوي أحد أهم المداخل الحديثة التي زاد الاهتمام بها في الآونة الأخيرة لدوره الكبير في تحقيق الأهداف التعليمية سواء على صعيد التعليم العام أم التعليم العالي، ومن الثابت أن التعليم من الركائز الأساسية في تحقيق التقدم والتطور الذي تنشده المجتمعات المختلفة، والمؤسسات التعليمية الجامعية أو العام كنوع من أنواع المؤسسات التعليمية تلقى اهتمام خاص كونها الحاضنة الرئيسة للطلاب في كافة المراحل التعليمية، ومن هذا المنطلق فإن التخطيط التربوي ليس عاملًا هامشيًا أو فرعيًا بل هو من أهم العوامل على الإطلاق في نجاح التعليم.
ومن الثابت أن هناك عدة عوامل تؤثر في التخطيط التربوي سواء في التعليم العام أم التعليم الجامعي ومن أهم هذه العوامل ما يلي: (الخرابشة، 2017؛ كلية التربية، 2016)
-السياسات الحكومية: وتتمثل السياسات الحكومية في السياسة المالية، فكلما كان الاتجاه الحكومي منفتحًا على سياسة التوسع في الإنفاق على التعليم، فإن الاهتمام بالتخطيط التربوي يزداد، ويُشجع المخططون في قطاع التعليم العام والتعليم الجامعي نحو الارتقاء بالتعليم من خلال وضع خطط مستقبلية رائدة.
-الظروف الاقتصادية العامة: من أهم العوامل المؤثرة في التخطيط التربوي الظروف الاقتصادية العامة، ذلك أن الإزدهار الاقتصادي يلعب دورًا محوريًا في التوسع والنمو في عملية التخطيط، أما الانكماش الاقتصادي فإنه يؤثر بالسلب على التخطيط التربوي في كافة مراحل التعليم.
-الاهتمام بالجانب التقني: من العوامل الفعالة والمؤثرة في التخطيط التربوي الاهتمام بالجانب التقني التكنولوجي، ومن المعلوم أن التكنولوجيا اليوم تلعب دورًا كبيرًا في المجالات الاقتصادية والتعليمية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ومن هذا المنطلق فإن التخطيط التربوي يزداد وينمو في ظل التطور التكنولوجي والتقني، وعلى العكس من ذلك، يضعف التخطيط التربوي حال غياب الرؤية التكنولوجية التقنية في المؤسسات التعليمية.
وبناء على ما سبق يمكن القول إن التزايد المستمر في دور المؤسسات التعليمية في القرن الحادي والعشرين، وسعيها الدؤوب لمواكبة التطور والنمو، زاد من مسؤولياتها، واهتماماتها، وأضاف إليها أهدافاً لم تكن في وقت سابق ضمن أولوياتها، كما أن التحولات التي طرأت على العالم مثل العولمة وما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد، والتطورات التكنولوجية، وثورة المعلومات والاتصالات والإنترنت، وّلدت تحديات كبيرة أمام هذه المؤسسات مما ترتَّب عليها سرعة في الأداء والإنجاز واتخاذ القرارات، فالتغيير والتطوير ومواكبة كل ما هو جديد فرض على هذه المؤسسات تطبيق السياسات التي من شأنها تطوير التعليم وتحسين مخرجاته، بما يتفق مع احتياجات سوق العمل، دون إهدار لمقدراته المادية والبشرية، وهذا يبرز أهمية التخطيط التربوي وأنه يتأثر بعامل التكنولوجيا والتطور التقني بدرجة كبيرة.
وفي الواقع فقد ظهر اتجاه قوي في المملكة العربية السعودية نحو تعزيز التعليم التقني والرقمي وتوسيعه، وقد أضحى هذا الأمر من الأهداف القومية التي تسعى إليها المملكة العربية السعودية في ضوء رؤية المملكة 2030، وقد جاء تعزيز التعليم الرقمي والتقني من رؤية ثاقبة تعتبر الاهتمام بالتعليم من الأهداف القومية للمملكة، ومن المتعارف عليه أن التعليم له دور كبير في دفع التنمية المستدامة واستشراف المستقبل والمساهمة الفعالة في تحديد الأهداف القومية للبلاد. كما أن تحسين التعليم يساعد على إعداد جيل جديد من المبدعين والمبتكرين الذي يعد وجودهم في أي مجتمع من المجتمعات من الإضافات المهمة للغاية، ولا ريب أن المملكة العربية السعودية تعمل على الاستفادة من التجارب الرائدة في هذا المجال. (العتيبي وآخرون، 2018)
وفي هذا الصدد لا بد من التأكيد على أن الثورة المعرفية والتكنولوجية من التحديات الخارجية الخطيرة التي تواجه التعليم العام والتعليم الجامعي، وليست هذه الثورة تحديًا في ذاتها، بل إن الدول الكبرى لا تسمح لغيرها من الدول بامتلاك هذه الثورة، ومن ناحية أخرى تعمل بشكل كبير على الإضرار بتلك الدول وضمان عدم استفادتها استفادة حقيقة منها، وعلى الرغم من ذلك فإننا بحاجة ماسة لاستشراف المستقبل والاستفادة الكاملة من منجزات الثورة المعرفية في خدمة السياسة التعليمية في بلادنا، وهذا يؤكد أهمية أن تنتهج المؤسسات التعليمية والتربوية في بلادنا استراتيجيات مستقبلية من أجل الاستقلال التعليمي التربوي وتحقيق أهداف العملية التعليمية المنشودة.
-العولمة: من العوامل المؤثرة في التخطيط التربوي واقع انتشار العولمة داخل الدولة، حيث تعد العولمة أخطر التحديات الخارجية التي تواجه التخطيط التربوي، ذلك أن العولمة تهدف لصبغ العالم كله بصبغة واحدة، وهي الصبغة العالمية، وتهدف كذلك لزرع القيم والمبادئ الغربية في المجتمعات العربية، ولذلك كانت العولمة الثقافية أخطر صور العولمة على الإطلاق، لأن من أهدافها مسخ الهوية العربية الإسلامية لبلادنا. وكلما زادت الاتجاهات المعارضة للعولمة في الحقل التربوي والحقل التعليمي فإن التخطيط التربوي يمكن أن يحقق أهدافه.
-مستوى التنافسية: إن السمة البارزة اليوم للتعليم والاقتصاد والسياسة وكافة مجالات الحياة التنافسية، وهو من المبادئ المعروفة في علم الإدارة والاقتصاد، حيث تسعى الدول أن تحجز مكانًا لها في قائمة الدول المتقدمة، وإن الدول التي تغفل هذه الحقيقة لن تتمكن من فرض سيادتها على أرضها، ولن تتمكن من تحقيق أهدافها، ولذلك فإن النظام الدولي يسعى إلى خلق بيئة تنافسية يسيطر عليها أقطاب العالم الغربي والشرقي، وإن إدراك المؤسسات التعليمية لهذا الجانب له دور كبير في تحقيق أهدافها ونجاح عملية التخطيط التربوي فيها.
-الفجوة بين الخطط التربوية وبين الخطط العامة في الدولة: يعاني التخطيط التربوي من عدة مشاكل أبرزها الفجوة الكبيرة بين النظرية والتطبيق، وبين المأمول والواقع، ذلك أن غياب التوافق بين هذين الجانبي يؤدي إلى عدم تحقيق التخطيط التربوي للأهداف الموضوعة له.
ومن خلال ما سبق يظهر لي أن العوامل السابقة قد تتضافر فيما بينها وتؤدي إلى إيجاد مناخ مناسب لنجاح عملية التخطيط التربوي.
أهم مداخل التخطيط التربوي التقليدية والمعاصرة:
لا شك أن هناك عدة مداخل للتخطيط التربوي وتخضع هذه المداخل لعدة عوامل، ذلك أن الأسلوب المناسب للتخطيط يتحدد من خلال الغايات التي ينظر لها عند وضع الخطة التربوية، وفيما يلي سأتناول أبرز المداخل المتعارف عليها في التخطيط التربوي سواء أكانت تقليدية أم معاصرة. (مشرف، 2019)
المدخل الأول: مدخل التخطيط وفقًا لاحتياجات القوى العاملة:
ويعد هذا المدخل من أهم المداخل المستخدمة في التخطيط التربوي، ويعتمد على عدة خطوات من أبرزها ما يلي:
1-أن تولي الدولة خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية أهمية كبيرة.
2-تنمية المهارات المختلفة للقوى العاملة في كافة القطاعات.
3-تحديد الحاجات التعليمية بناء على احتياجات القوى العاملة.
4-تحديد برامج التدريب التعليمية المناسبة تبعًا لواقع البيئة التعليمية.
5-يخضع هذا النموذج لما يعرف بالموازنة بين العرض والطلب.
ويركز هذا المدخل على جودة الطالب: حيث يعتبر الطالب محور عملية التعليم والتعلم وهو المستفيد الرئيسي من الجودة الشاملة إذ يتم بناء شخصية الطالب بما يمتلك من معارف و مهارات و قيم لتتحقق فيه صفات الجودة وكذلك يتم الاهتمام بالخدمات المقدمة له كما يتم تقويم الطالب في ظل المخرجات التي تتحقق لديه في الجوانب الدراسية والسلوكية.
المدخل الثاني: مدخل الطلب الاجتماعي:
ويقوم هذا المدخل على تخطيط التربية والتعليم تبعًا للطلب الاجتماعي عليه، ويقوم هذا المدخل على وجهة نظر مفادها، أن التعليم عملية ثقافية اجتماعية، فلا بد أن تكون مرتبطة بالمجتمع والاتجاهات السائدة فيه، مع مراعاة البعد الاقتصادي في هذا الجانب، وبناء على هذا فلا بد عند تقدير حاجات المجتمع في التوسع التعليمي، من التوازن بين الأهداف التعليمية من جهة والأهداف الاقتصادية من جهة أخرى.
المدخل الثالث: مدخل تخطيط التعليم تبعًا لمعدل العائد منه:
ويظهر من تسمية هذا المدخل بالغرض منه، إذ إنه يخطط للتعليم تبعًا للنتائج المترتبة عليه والفوائد التي تعود على المجتمع من خلاله، ويستخدم هذا المدخل في حساب القيم الصافية لتدفقات الدخل المستقبلي لكل برنامج تعليمي، وذلك بالسعر في الوقت الحالي، ثم يتم بعد ذلك تشجيع البرامج التي تعود بالنفع على المجتمع وترك البرامج التي لا يترتب عليها عائد.
المدخل الرابع: المدخل المركب:
ويجمع المدخل المركب بين مميزات المداخل السابقة، ويعد هذا المدخل من أهم المداخل المستخدمة في كثير من الأنظمة التربوية لأنه يتميز بعدة ميزات من أهمها أنه يستفيد من المداخل السابقة ومن إيجابياتها لمواجهة التحديات المختلفة، ويمتاز هذا المدخل أيضًا بالمرونة ويشجع على الابتكار. ولا شك أن الإبداع من المتطلبات الأساسية في عصر الثورة المعرفية والرقمية، حيث يساهم بدور كبير في تنمية مهارات الطلاب وتهيئتهم لسوق العمل والمشاركة في دفع عجلة التنمية المستدامة في أي مجتمع من المجتمعات، وبالنظر إلى الإبداع والابتكار فإنه يعني القدرة على الإتيان بالجديد في أي مجال من المجالات، فقد يكون الإبداع فكرة أو رسمًا أو نظرية أو اختراعًا، ومن المتعارف عليه أن الإبداع لا يصدر إلا عن شخصية مبدعة لديها القدرة والقابلية للإبداع. (بسري والحلبي، 2019)، ويمتاز هذا المدخل أيضًا بالمشاركة الداخلية في عملية التخطيط ومشاركة كافة الفئات المعنية.
وعند الحديث عن دور المؤسسات التعليمية في تنمية الإبداع والابتكار في المملكة العربية السعودية، لا بد أن نضع في اعتبارنا أمرًا في غاية الأهمية وهو ضرورة أن يتم تعليم الطلاب وتعوديهم على المسئولية الاجتماعية بمعنى أن كل طالب من الطلاب يقع على عاتقه مسئولية كبيرة تجاه مجتمعه ووطنه، وبهذا فإننا نربي في نفوس أبنائنا المسئولية المجتمعية، ما يشعرهم بضرورة بذل الغالي والنفيس من أجل المساهمة الفعالة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. ولا بد أن تستفيد المناهج في وقتنا الحالية من التقدم التقني والتكنولوجي الكبير الذي يشهده العالم، إذ إن العملية التعليمية وثيقة الصلة بالمجتمع من جهة وبسوق العمل من جهة أخرى، وإلا فإننا قد نجد كثيرًا من الخريجين الذين لم يستطيعوا الحصول على فرصة عمل مناسبة بسبب عدم امتلاكهم المؤهلات والقدرات التي تؤهلهم لسوق العمل ما يؤكد ضرورة أن يتم إعداد المتعلمين إعدادًا شاملًا، وفي هذا الصدد يبرز مفهوم الجودة الشاملة كأحد الاتجاهات الحديثة التي زاد الاعتماد عليها من أجل إعداد مناهج تمتلك المؤهلات التي تعود بالنفع على أفراد العملية التعليمية بوجه خاص وسوق العمل بوجه عام.
المدخل الخامس: مدخل تحليل النظم:
ويعتمد هذا المدخل على التجزئة الشاملة لكافة أجزاء النظام من خلال تحليل كل قطاع من المكونات، بهدف التعرف على أبعاده وتقديم تصور حقيقي وصحيح عنه، وفي مدخل تحليل النظم يتم بلورة أفكار جديدة لتعديل وتحسين النظام الحالي أو وضع مشروع متكامل لنظام جديد يُستخدم كأساس لمرحلة التصميم التفصيلي للنظام، ومن أهم مميزات هذا المدخل، أنه يقوم بتجزئة النظام المعقد إلى مكونات أساسية بطريقة منطقية صحيحة، ومن مميزات هذا المدخل أنه يركز على تحليل النظم وتحديد كافة المؤثرات والقيود الموجودة في ذلك النظام.
ويهتم هذا المدخل بالبرامج والمناهج التعليمية: ذلك أنه يرى وجوب أن تعكس البرامج والمناهج التعليمية الأهداف التربوية التي تلبي حاجات الطلبة وأن تكون واضحة ومستندة إلى معايير الجودة وتعكس متطلبات الحاضر والمستقبل في التقدم للطالب.
كما يهتم بجودة المباني التعليمية ومرافقها وتجهيزاتها: حيث يجب أن تتوفر المباني الكافية والآمنة والمرافق الصحية والملاعب والتجهيزات والمختبرات ومصادر التعليم اللازمة من مكتبات وأجهزة حاسوب وغيرها.
وأرى أن أكثر ثلاث اتجاهات مهمة هي:
1-اتجاه زيادة الرغبة العلمية لتطوير طرق استشعار المستقبل، بهدف التأثير الفعال فيه.
2-اتجاه توسيع نطاق استخدام كل من المحاسبية التربوية والحوافز في إطار تخطيطي متكامل.
3-اتجاه التوسع في نظم الإعداد الشامل للطالب، بدلًا من ربطه بتخصص ضيق ربما يختفي في المستقبل.
المراجع:
-بسري، أفنان محمد عمر، والحلبي، انتصار صالح أحمد. (2019). المسؤولية الاجتماعية ودورها في تنمية التفكير الإبداعي لدى طالبات جامعة الطائف. مجلة القراءة والمعرفة: جامعة عين شمس – كلية التربية – الجمعية المصرية للقراءة والمعرفة، ع215 ، 173 – 225.
-الخرابشة، عمر محمد عبدالله. (2017). دور التخطيط التربوي في تطوير مخرجات التعلم. المؤتمر التربوي الدولي الأول للدراسات التربوية والنفسية : نحو رؤية عصرية لواقع التحديات التربوية والنفسية، مج1 ، سيلانجور: جامعة المدينة العالمية – كلية التربية، 153 – 169.
-العتيبي، عواطف قاعد، المبارك، عهود عمر، العمري، وفاء سالم محمود، وعون، وفاء بنت محمد وهبو. (2018). نظام التعليم التقني لمواكبة تطلعات رؤية المملكة العربية السعودية 2030 في ضوء التجربة اليابانية. مجلة كلية التربية: جامعة بنها – كلية التربية، مج29, ع114 ، 49 – 76.
-علي، عمر محمد. (2011). العوامل المؤثرة عند التخطيط للمناهج والبرامج التعليمية: دراسة نظرية. مجلة العلوم والبحوث الإسلامية، ع2 ، 197 – 207.
-العنزي، بتلة صفوق. (2016). دور الجامعات في تنمية القدرات الإبداعية لدى الطلبة، المجلة العلمية لكلية التربية النوعية، العدد السادس عشر، جامعة حفر الباطن، المملكة العربية السعودية.
-قادة، يزيد. (2012). واقع تطبيق إدارة الجودة الشاملة في مؤسسات التعليم الجزائرية: دراسة تطبيقية على متوسطات ولاية سعيدة، رسالة ماجستير، كلية العلوم الاقتصادية والتسيير والعلوم التجارية، جامعة أبي بكر بلقايد، الجزائر.
-كلية التربية (2016). أبرز التحديات المستقبلية التي تواجه القيادات التربوية في المملكة العربية السعودية وسبل مواجهتها، مجلة كلية التربية جامعة الأزهر، ع 171.
-مسلم، رامي محمد خليل. (2018). درجة تطبيق مبادئ إدارة الجودة الشاملة في المدارس الأساسية الحكومية في مدينة العقبة في الأردن من وجهة نظر المعلمين، رسالة ماجستير، جامعة الشرق الأوسط، الأردن.
-مشرف، شيرين عيد مرسي. (2019). الاتجاهات الحديثة في مداخل التخطيط التربوي للتعليم الجامعي. مجلة المعرفة التربوية، مج7, ع13 ، 1 – 44.
-مهناوي، أحمد غنيمي، وحسين، أحمد حسين محمد. (2013). دراسية تحليلية لأهم الاتجاهات الحديثة في الإصلاح التربوي: “المدرسة المتعلمة نموذجا”. مجلة كلية التربية، مج 24, ع 96 ، 161 – 212.
كتابة: وفاء محمد العتيبي
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *