مرشد سياحي
Ipsef

بين ضِفاف الواقع نعيش وحدتنا النفسية

بين ضِفاف الواقع نعيش وحدتنا النفسية
كتابة: مريم سعد الرحيلي

لقد بات العالم قرية صغيرة ولم تعد الحدود حاجزاً أمام أي تواصل وما كان بالأمس صعباً أصبح اليوم يسيراً جرّاء التطور التكنولوجي الذي نعيشه. أصبح من السهل أن تخاطب صديقك الذي يقطن في الصين وأنت متكئاً في إنجلترا، ولكن هل هذا التقارب وانعدام الحواجز منعنا من شعورنا بالوحدة النفسية؟

 

سؤالٌ تبادر إلى ذهني، هل شعرت يوماً وأنت في وسط أهلك وأصدقائك أنك وحيداً؟ أن جسدك معهم، ولكن روحك ونفسك في اللامكان، العديد من تلك الأسئلة تبادرت إلى ذهني عند كتابة هذه المقالة، ما الذي دفعنا لعيش حياة كهذه؟ هل كان التطور سبباً في ذلك، أم كانت أفكارنا اللاعقلانية هي الدافع، أم أننا اخترنا البُعد عن الله فكانت العاقبة شعورنا الدائم بالوحدة، أم أن سعينا وراء تحقيق المستقبل المجهول عبر دراستنا خارج أوطاننا تمهيداً لشعورنا بالوحدة، أم أن أهلنا و أصدقاءنا كان لهم يداً في تزويد أنفسنا بالوحدة، ما أعنيه بالوحدة ليست تلك الوحدة التي نختارها بملء إرادتنا أو ما تسمى بالعزلة الاجتماعية لا، بل تلك الوحدة التي تأتينا ونحن داخل حشد من الناس تلك الوحدة التي تعتري أرواحنا وتسلب ابتسامة شفتينا، تلك الوحدة التي بسببها يهتز كيان شخصيتنا مما جعلنا أجسادًا خاوية من الداخل.

 

أعتقد أن سبب وصولنا لهذا الحال هو تطور عالمنا الحالي، هل هذا يعني أنه في الزمن القديم لم تكن هناك وحدة؟ لا، لكن ما أعنيه أنها كانت موجودة، ولكن بنسبة لا تكاد تذكر مما لفت نظري في إحدى الفيديوهات التي شاهدتها أن الظروف الاقتصادية للنصف الثاني من القرن العشرين كانت سبباً في جعل الأفراد قلقين بشكل دائم نحو المستقبل وعاجزين عن السيطرة على حياتهم ويسعون بجهد لإيجاد معنى لتلك الحياة، وغير واثقين من قدراتهم وإمكانياتهم لمواجهة تحديات هذا العالم (Academy of Ideas,2018).

 

ومما يؤكد ذلك أن في أحد الدراسات التي اطلعت عليها ذُكر أن للوحدة النفسية علاقة بإدمان الانترنت وكيف أن الشخص مهما كانت علاقاته متعددة داخل العالم الافتراضي إلا أنه يشعر بالوحدة النفسية. (ابريعم،2014، كما ورد عن القطيش والشرفات، 2016).

 

حقيقةً أنا أتفق مع ذلك فغالبية من يدمنون على الانترنت تكون شخصيتهم في العالم الافتراضي مختلفة عن شخصيتهم على أرض الواقع مما يجعل الفرد في حالة من الوحدة النفسية نتيجة هذا الاختلاف، بالإضافة إلى تبادر العديد من الأفكار اللاعقلانية إلى ذهنه، ومن الأفكار التي قد تتبادر إليه (لو عرفوا شخصيتي الحقيقية لما قَبِلوا صداقتي) فهو يرى النقص في ذاته.

 

من هذا المنطلق أرى أن التطور لم يكن السبب الوحيد في شعورنا بالوحدة ربما كانت أفكارنا اللاعقلانية التي تداهم عقولنا وأذهاننا كأن نقول في أنفسنا (ليس هناك أحد مهتمٌ بما أقول أو بما أفعل، لم أرتقِ لسقف توقعات من حولي، لو أني فعلت كذا وكذا لأعجب بي فلان وفلان) (زهران، 2012). هل يُعقل ما نفكر به، نحن لم نُخلق لنرتقي لتوقعات الاخرين أو لنرضيهم نحن لسنا مجبورين لعيش حياة الآخرين، هذه حياتنا نحن ويجب أن نعيشها كما نريد وليس كما يريدون، ولكن هل التطور والأفكار هي فقط من تدخلنا في وحشة الوحدة النفسية؟

 

إجابتي على ذلك السؤال (لا) فأنا أرى أن المرء قد يشعر بالوحدة النفسية نتيجة بُعده عن بيته وأهله ووطنه، إذ نصّت إحدى الدراسات على أن الفرد يشعر بالوحدة النفسية نتيجة حنينه لوطنه، حيث يشعر الفرد بأنه ليس في المكان الذي ينتمي إليه، وليس مع الأصدقاء المقربين منه، ويبدو منفصلاً عن المجتمع مما يؤدي إلى انخفاض أدائه الأكاديمي، وأوصت تلك الدراسة أنه لابد من العمل على التأقلم الايجابي للطلاب القاطنين خارج وطنهم وذلك لتفادي الضرر الذي سوف يلحق بنفوسهم و يجعل منهم طلبة ذو مستويات منخفضة أكاديمياً (Holly, 2010).

 

أنا أتفق مع ذلك حيث قمت بإجراء مقابلة مع أحد اخوتي وكان ممن درسوا في الخارج، وكان الحوار الذي أجريناه مؤكداً على ما جاءت به الدراسة إضافةً على ذلك خوفه من كسب الأصدقاء نتيجة عدم شعوره بالأمن، وكانت لديه رغبة ملحّة في الانتهاء من الدراسة سريعاً حتى يتسنى له العودة الى وطنه، فهو بذلك عبّر ان وحدته النفسية كانت بسبب عدم تكيفه مع المجتمع الذي هو فيه.

 

على سبيل المثال تحدثت ورقة علمية عن الشعور بالوحدة النفسية وأنه لا يحدث إلا بسبب عدم تكيف الفرد مع البيئة المحيطة به، وعدم فهم الفرد لذاته وقلة ثقته بنفسه مما يصيب شخصيته باختلال في التوازن، فالمرء قد يتعرض للعديد من المشاكل ولا يصيب هيكل شخصيته شيء ما دام يملك الثقة والعزيمة في مواجهتها، ولكن ما يدمره إصابة نفسيته بالضرر (Anatoly, 2018).

 

أنا أتفق حول أهمية الشخصية في إصابة الفرد بالوحدة النفسية، فطالما كنت قوياً واثقاً فيما تفعله، مُشعراً نفسك بالرضا عنها لن تتجرأ الوحدة أن تطرق بابك وإن طرقت بابك فالسبب واحد ولا يمكن أن يكون غيره ألا وهو البُعد عن صُحبة الله.

 

وبالتالي هناك دراسة تحدثت عن التدين وعلاقته بالوحدة النفسية وتبين أن هناك علاقة سالبة بين التدين والوحدة النفسية أي كلما زاد قرب الفرد من الله نقص مستوى الوحدة النفسية لديه، إذ أن الوحدة النفسية لا تصيب إلا من حُرم من الإيمان، وأن هذه الوحدة مرتبطة بالاكتئاب والقلق (آل جبير، 2008).

 

من هذه الدراسة اتضح أن من كان بعيداً عن الله لم يذق رغد العيش، ولن تهدأ روحه حتى تعود تلك النفس إلى بارئها. ولن ننسى قوله تعالى: ﴿ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا﴾. (القران الكريم، طه:124)، وإذا أتينا لتفسير معنى (الضنك) فالضاد تعني الضيق والنون تعني النكد والكاف تعني الكدر فهذا تصريح بليغ من المولى جل جلاله بأهمية العلاقة به.

بالإضافة الى أن هناك دراسة أثبتت ارتباط الوحدة النفسية بالعديد من المشاكل الصحية سواء كانت نفسية كالقلق والاكتئاب أو جسدية كالصداع والألم، حيث أن الأسباب تعددت منها ما هو متعلق بالأهل كعدم توازن العلاقة بين الابن والوالدين، ومنها ما هو متعلق بالأقران كالإيذاء والتنمر ومنها ما هو متعلق بالفرد ذاته كشعوره بالخجل والانطوائية (Stickley et al.,2016).

 

في رأيي أن هذه الدراسة غطت جانبًا مهمًا من جوانب الوحدة النفسية وهو جانب الأهل والأصدقاء، وكيف أن سلوكياتهم تجاهنا تؤثر على نفسياتنا، لذا أرى أنه من المهم أن يكون لدى الأهل والأصدقاء مسؤولية تجاه سلوكياتهم وردود أفعالهم تجاه الاخرين آخذين حديث أنس رضي الله عنه عن الرسول ﷺ: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} (أخرجه البخاري)، مبدئاً وقانوناً في حياتهم.

 

وفي الختام لا تتوقع أن الإصابة بالوحدة النفسية تختص بفئة عمرية محددة بل على العكس تماماً قد يصاب بها الشيخ وهو في حكمة ووقار، وقد يصاب بها الطفل وهو بريئاً، وقد يصاب بها الشاب وهو في قمة صلابته، وقد يصاب بها المراهق وهو في عمر الزهور. ربما تكثر في فئة و تقل في أخرى لكن المهم هو السبب والظروف والأحداث التي تطرأ على حياة الإنسان، ولكل داءٍ دواء ما دامت النفس راغبة في المضي قدماً، راغبة في عيش حياة هنيئة. أخيراً أيقن في داخلك أنه كلما كانت علاقتك بالله قوية كان شعورك بالوحدة النفسية أضعف، فالروح تأنس بقرب خالقها. حاول أن تقترب من الله فهو من أوجدك من العدم وهو الأحق في أن تكون بقربه، فاذهب اليه مهرولاً يأتيك راكضاً.

 

المراجع العربية:

-البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1/ 14)، رقم: (13). https://2u.pw/71gwM

-آل جبير، سليمان محمد الحسين (2008). التدين والشعور بالوحدة النفسية. مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية, (3), 224-263. http://search.mandumah.com/Record/76520

-زهران، نيفين بنت محمد علي (2012). انتشار الشعور بالوحدة النفسية وعلاقته بكل من الأفكار العقلانية والسلوك العدواني والعدائي لدى المراهقين والمراهقات من طلاب المدارس المتوسطة والثانوية بالمدينة المنورة. عالم التربية,13(37)، 37-121. . http://search.mandumah.com/Record/621109

-القطيش، حسين مشوح محمد، الشرفات، أحمد (2016). مستوى الشعور بالوحدة النفسية لدى الطلبة المراهقين في مدارس البادية الشمالية الشرقية. مجلة المنارة للبحوث والدراسات. 22 (4), 279-300. http://search.mandumah.com/Record/829180

 

المراجع الأجنبية:

-Anatoly, Lyubyakin. (2018), “Structural and Functional Approach to Study of Psychological Loneliness” in The Fifth International Luria Memorial Congress «Lurian Approach in International Psychological Science», KnE Life Sciences, pages567-576. DOI :10.18502/kls.v4i8.3315567–576. https://kau.deepknowledge.io/edsDetails?An=133023641&dbId=awr

-Holly A. Hunley.(2010). Students’ functioning while studying abroad: The impact of  psychological distress and loneliness. International Journal of Intercultural Relations, 34(4), Pages 386-392. DOI: https://doi.org/10.1016/j.ijintrel.2009.08.005

-Stickley, A, Koyanagi, A, Koposov, R, Blatny, M, Hrdlica, M, Schwab-Stone, M, & Ruchin, Vladislav.(2016). Loneliness and its association with psychological and somatic health problems among Czech, Russian and US adolescents. BMC Psychiatry. 16-128. DOI: 10.1186 / s12888-016-0829-2.

 

الملاحق:

-Academy of Ideas (21-08-2018). Social Media and The Psychology of Loneliness.

Retrieved from  https://www.youtube.com/watch?v=FQ40hdQVndI&t=266s&ab_channel=AcademyofIdeas

 

<a href=’https://www.freepik.com/vectors/design’>Design vector created by freepik – www.freepik.com</a>

 

كتابة: مريم سعد الرحيلي

 

مواضيع مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

آخر المواضيع

قائمة المحررين

الأكثر تعليقاً

فيديو