لطالما كان للأفلام دور في إيصال رسائل ونقاش قضايا متصلة بحياة الناس مما يجعل تأثيرها على المشاهد يختلف بجودة معالجتها لتلك القضايا التي تنبثق منها موضوعات هامة وحساسة كتلك المتصلة بالأطفال.
وهذا ما يهمّنا في المقال الذي أكتبه للمجلة التربوية الإلكترونية، والذي قد تم نقاشه في إحدى مجتمعات التطوير المهني للمعلمات بإحدى مدارس الطفولة المبكرة عندما أُثِيرَ تساؤلاً حول التأثير “الخطير” للمعلم على الأطفال وكيفية انتقال ذلك ،كما سُلِّط الضوء على سمات مجتمع الصف وعلاقة ذلك بنمط شخصية المعلمة و قد تباينت الآراء بين التأييد مع التأكيد على ملاحظة ذلك بينما شككت أخرى في صحة هكذا رأي و استعرضت جانب آخر للموضوع وأبدت رفضها للتغيير من شخصيتها وأسلوبها المتسم بالحِدّة لمجرد تعاملها مع أطفال! وتُكْمل أن هذا لصالحهم وإلا فلن يُحْسِنون التعلّم، وهناك من أضاء لهم النقاش ملاحظة الفكرة بالفعل، وهذا ليس كل شيء فالتأثير الذي يحمله الطفل في نفسه وفِكره بناءً على ملاحظته لذلك المعلّم القدوة ولم يظهر لنا قد يكون أعظم لأنه يستقر في بناءه المعرفي ليظهر في وقت آخر وهذا ما يسمى بالتعلّم الكامن (latent learning).
لقد أثار الفلم المصري (الثلاثة يشتغلونها) عام 2010م من بطولة الفنانة ياسمين عبد العزيز هذه القضية أي التأثير الصارخ لمعلمة الطفولة، وتعني المفردة العامية “يشتغلونها” أي يَخْدَعُونها.
لنتعرّف على شخصية نجيبة وعبارتها الشهيرة (101% ثانوية عامة) تعبيراً عن تفوّقها الدراسي لامتلاكها مهارة الحفظ والذي تراه الشخصية كافياً لتخوض عملاً كتعليم الأطفال عندما قررت مساعدة والدها الذي تم الاستغناء عنه في المصنع حيث يعمل فلم تجد نجيبة أسهل من العمل مع الأطفال إلى جانب دراستها الجامعية في كلية الآثار فهي لن تحتاج لتأهيل أو جهد لأنهم مُجَرّد أطفال! وعندما انتقلت لهذا الدور نجد أن شخصيتها تنعكس في كل مره على أولئك الصغار وعند كل تغيير فكري يحل بها فإنهم يتطبّعون به ويقلّدونها في حركاتها وسكناتها وأفكارها حَدْ الاستنساخ.
لقد تربت الشخصية تربية متواضعة وقد انبثقت النزاعات داخلها عندما انطلقت للحياة الجامعية لتحقيق أحلام والديها من اختيار التخصص إلى اختيار الزوج! الأب عبّأ فكرها بأن تسعى وتجتهد أكاديمياً إلى أن تصل لرئاسة الجامعة في يوم ما والأم عبّأت فكرها بأن تتزوج طالب مقتدر مادياً من تلك الجامعة لينتشلهم من حياة الفقر إلى الغنى.
أما المسكينة نجيبة ففكرها مشرّع للتعبئة وليس للإنتاج أو الانتقاء والقياس والموازنة وهذا الدور انعكس على أطفال المرحلة الابتدائية (القُصّر) بل أن المشاهد سيجد نجيبة قد تساوت في هذه السمة (قاصر) مع الأطفال رغم اختلاف دورها ومكانتها الاجتماعية كمعلمة لهم وذلك بسبب الخضوع الفكري للآخر. إن هؤلاء الأطفال في مرحلة التأسيس الفكري والثقافي والاجتماعي والنفسي والعاطفي وبناء الشخصية لذا ظهر الأطفال شديدو التقلّب مع كل تغيير يحل على المعلمة فعندما قررت إغواء شخصية “نبيل” الشاب المستهتر الغني انقلبت إلى شخصية مشابهة وتبنّتها بالمطلق في المنزل والمدرسة والجامعة والشارع، وهذه أحد مشكلات نجيبة أنها لا تعي أدوارها المختلفة لتؤديها في الحياة بما يتلاءم ومتطلبات ذلك الدور بل تخلط بين كافة أدوارها بذات التفاصيل وهذا ما عقّد كل شخصية تتبناها للوصول للأهداف فكانت توحّد السلوك والأداء لتقديم نفسها من خلال مختلف أدوارها:
الابنة في المنزل أمام والديها – والطالبة الجامعية – والمعلمة – والزميلة – والحبيبة، مما أَحْدَث الكثير من الصراعات في كافة أدوارها الاجتماعية المذكورة ولم تكن تمتلك الدراية ولا الوعي بكيفية عرض الذات وتأثير ذلك أثناء التفاعلات مع الآخرين، هناك علاقة متينة بين نشأة المشكلات الفكرية والسلوكية والنفسية لدى الأطفال ونمط التربية فأسرة نجيبة لازالت موجودة ويتبنّاها البعض من أولياء الأمور في المجتمع لذا فأبنائهم أكثر عرضة لخطر الاستغلال وتبنّي أفكار من يتقرّب منهم أو ينبهرون به.
أما شخصية بطلتنا فنراها في بعض أنماط معلمو مراحل الطفولة على عدة أوجه، الوجه الأول: المعلّم الذي لا يعي تأثيره أي ترك علامة على جيل من الأطفال.
والوجه الثاني:المعلّم الذي يخلط في الآداء بين أدواره المختلفة.
أما الوجه الثالث: غياب رؤية المعلّم وعدم وضوح الأهداف و فلسفة التربية والتعليم التي يتبنّاها.
نعود لبطلة مقالنا عندما قرر ان يستغلّها شخصية “خالد” (الثورجي) الذي يرفع شعارات سياسية زائفة ليتكسّب منها متلاعباً بمشاعر الفقراء الذين يستخدمهم كوقود لمصالحه فهو يعيش حياة أخرى فارهة ويحتقر الفقراء ويذمهم ويتعالى عليهم وهي تردد خلفه دون وعي حتى بعد أن شهدت بأم عينيها ذلك التناقض الصارخ إلا أن الإذعان الفكري لديها سرعان ما غطّى على صوت العقل المُدوي. نرى عند كل شخصية للمعلمة نجيبه يظهر أولياء الأمور يقدمون شكاوى لما يلاحظونه على أبنائهم من تغييرات متطابقة مع حالة تلك الشخصية ولكن دون جدوى فأطفالهم قابعين تحت سيطرة المعلمة نجيبة ولم يظهر أي طفل يتحدّث ويتصرّف خارج ذلك السرب وعندما تجرأ أحدهم على التساؤل نهرته المعلمة فتكممت أفواههم وأفكارهم عن التساؤلات التي هي جزء من نموهم الطبيعي في هذه المرحلة وهذا له علاقة بشقين أحدهما ضعف جودة التربية المقدمة للطفل فهو لا يعرف حقوقه كما لا يعي أهمية أن يكون له صوت ورأي أما الشق الآخر أنهم ببساطة لايزالون أطفالاً! وعلى مقدمو التربية والرعاية التدخّل وهذا سيُظْهِر على السطح جودة العلاقة والاتصال بين الأسرة والمدرسة ومدى الموائمة في الرؤى بينهما.
وآخر شخصية وجدت في نجيبة صيد سهل لتحقيق هدف ما هو “عامر” (الداعية المزيف) الذي يستخدم رداء الدين للوصول لمآربه الخاصة! فسارعت نجيبة لتشرّب فكره الضال غير آبهة ً للمنطق أو المُعْتَقَد ولا حتى لوالديها الذين شنّت عليهما حرباً دينية غوغائية عنوانها (حرام)
وفي كل مرة تقع الشخصية في شباك جهلها وإذعانها الفكري كانت ترتطم بدوامة تأخذها إلى القاع إلى أن حدثت الثورة الفعلية في فكرها! عندما أدركت بعيداً عن تأثير محيطها الاجتماعي- أنها كانت مجرّد أداة تعبئة جاهزة للاستغلال فأعملت العقل واستخدمت القياس لنقد تجاربها التي بدا واضحاً لها أنها مؤثّر ضخم على جيل الأطفال بين يديها فثارت على الجمود والإذعان الفكري والتلقين والجهل فحلّقت بالأطفال نحو التعلّم والتفكّر والشعور بذلك بحواسهم وتقدير الفهم ومن هنا انطلقت نجيبه وأطلقت معها جيل كامل كاد يؤد بين يديها!
المشكلة في التربية التي تلقّتها نجيبة أنه تم صياغة شخصيتها بالطاعة العمياء لدرجة أن مستقبلها عبارة عن أحلام آخرين “فقط” فهي لا تمتلك أدوات التفكير المختلفة من النقد والتحليل والتفسير والقياس والاستدلال وطرح الأسئلة لذلك كانت تهيم على كل شكل يتاح لها تبنّيه بشكل تام حد الإنغماس دون وعي لذاتها أو محيطها ودون إدراك للمخاطر التي تحيق بها.
إن مايحدث في مدارس الطفولة عندما يتبنّى المعلم/ة فكر معين بالضرورة ينتقل للأطفال أو يُحْدِث خطب ما في داخلهم كأن يكون ذو أفكار متزمّتة أو على النقيض مُنْفَلِتة في مجال ما وكذلك عندما تكون شخصية هذا المعلم انفعالية أو مضطربة فهو ينقل لهؤلاء الأطفال ذات شكل الانفعال أو الاضطراب وعندما يعامل الأطفال والآخرين بلطف ومحبة فهذا ما يكونون عليه وإن كان منفتح التفكير يتبنّى مهارات التفكير المختلفة طريقةً له فهذا سيظهر بدوره على نمط الأطفال الذين يقضون معه وقتاً طويلاً من يومهم الدراسي. هذا ما تؤكده نتائج تجربة (الدمية بوبو) لألبرت باندورا عام 1961م التي أجراها على أطفال تبلغ أعمارهم ما بين الثلاثة والسبعة سنوات حيث يراقب الطفل الشخص البالغ (ذكر/أنثى) وهو يتعامل مع الدمية ثم يُترك الطفل لوحده مع (بوبو) ويتم رصد سلوك الطفل، و قد توصّلت النتائج إلى أن الأطفال الذين شاهدوا الشخص البالغ يعنّف الدمية قاموا بذات السلوك معها أما من شاهدوا البالغ يعامل الدمية بلطف فقد اتخذوا ذات السلوك الودود في تعاملهم معها وهذا يفسّر تأثّر سلوك الطفل عبر التعلّم بالملاحظة.
إجمالاً، عندما يكون الوعي حاضراً للتعامل مع مرحلة الطفولة فلن نجد مفر من إدراك الأدوار وأهمّيتها لدى المُرَبّي سواء كوالدين أو كمقدّمي رعاية أو معلمون فجميعهم يمثّل القدوة والمؤثّر والفرق الذي سَيُحْدَث بما يقدّمونه للأطفال من تعلّم وتربية وبرامج وفكر يخدمهم من منطلق استيعاب كل مرحلة وما يرتبط بها من خصائص وتحديات وتحديد الرؤية والأهداف التي سيُبنى عليها العمل معهم ولن يتحقق ذلك بمعزل عن فهم بعض الأسس كفلسفة التربية والطفل والطفولة. فلنتثقّف وننفض غبار الرتابة لننطلق بهذه الأجيال نحو النور.
كتابة: أمل طاهر الأسود
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *