يعتبر الذكاء الاصطناعي من أهم التحديات التي تواجه العصر، حتى أصبح جزءً أساسيًا من حياتنا اليومية، وأداة رئيسة للنمو في كافة المجالات. بدءًا بأجهزة الحواسيب مروراً بالهواتف النقالة والأجهزة اللوحية الذكية، وصولاً إلى الروبوتات، كما كان له الأثر الكبير في ازدهار العديد من المجالات المختلفة كالطب، والهندسة، والصيدلة، والزراعة، والصناعة، والتعليم …الخ.
هل تساءلت يومًا: لماذا كنا نتذكر أرقام اتصال أقاربنا وأصدقائنا بسهولة قبل ظهور الهاتف المتنقل في حياتنا؟ لماذا لا يخلط السائق المتمرس بين المكابح ودواسة البنزين بينما يفعل السائق الجديد ذلك؟ لماذا ينصح آباء الأطفال الذين يعانون من ضعف في إحدى العينين بتغطية العين القوية والاعتماد على العين الضعيفة؟ لماذا يقوم ذوو الاحتياجات الخاصة بالتدريبات المختلفة لتقوية جوانب ضعفهم؟
الرابط بين هذه الأسئلة والكثير غيرها يتمثل في مفهوم اللدونة العصبية. ما هي اللدونة العصبية؟ وكيف يعطي تفسيرها معنى لكل هذه الأسئلة المختلفة؟ كل ذلك سوف يتناوله مقالنا هذا.
لتبسيط هذا المفهوم، سوف أبدأ بعرض قصة باربرا أرو سميث، المرأة ذات صعوبات التعلم التي اكتشفت كيف تعالج نفسها. أظهرت باربرا (التي ولدت عام ١٩٥١م في مدينة بيتربورغ، كندا) منذ صغرها صعوبات في الكتابة، والقراءة، والكلام. كانت تكتب الكلمات والأرقام بطريقة معكوسة من اليمين إلى اليسار. كانت تجد صعوبات في نُطق الكلمات، وتعاني صعوبات في إدراك العلاقات بين الرموز، وتكابد صعوبات في فهم قواعد النحو، وتقاسي صعوبات في استيعاب مفاهيم الرياضيات، والمنطق، والسبب والمسبب. فعلى سبيل المثال: لم يكن باستطاعتها فهم ماذا تعني كلمة “أخو الأب” أو “أخت الأم”! ماذا يعني “قبل” أو” بعد”، “يسار” أو “يمين”! كانت قراءة الساعة أمرًا بالغ الصعوبة بالنسبة لها، لأنها لم تستطع فهم العلاقة بين عقاربها. ومما زاد الأمور تعقيدًا نشأتها في بلدة صغيرة في زمن ليس به مكان لتقبل الاختلافات. حينما كانت باربرا في الصف الأول تحدثت معلمتها مع والدها وأخبرته أن ابنته تعاني من انسداد عقلي، وبأنها لن تتعلم أبدًا بالطريقة التي يتعلم بها الآخرون.
ومع كل هذه الصعوبات، كانت باربرا تتمتع بنقاط قوة بدأت تعتمد عليها لتعوض ما استطاعت من نقاط ضعفها: فلديها عائلة متفهمة وداعمة، وبداخلها رغبة شديدة في النجاح، بالإضافة إلى أنها تمتلك ذاكرة سمعية مغناطيسية وذاكرة بصرية بالغة القوة اعتمدت عليهما في اجتياز المراحل الدراسية، فاندفعت في طريق النجاح من خلال حفظ المعلومات بدلًا من فهمها. قبل كل امتحان، كانت تدعو أن يكون الامتحان مستندًا إلى الحقائق لا إلى المنطق لكي تستطيع اجتيازه. وفي الوقت الذي كان معظم الطلاب بالجامعة يكتفون بقراءة البحوث مرة أو مرتين لاستيعابها، كانت باربرا تقرأ كل بحث عشرين (٢٠) مرة بالإضافة إلى قراءة مصادره لكي تستوعبه وتفهم المعاني التي يشتمل عليها.
خلال دراستها قرأت باربرا كتاب “الرجل ذو العالم المحطم” للعالم الروسي ألكسندر لوريا والذي كان نقطة مفصلية في حياتها. حكى هذا الكتاب قصة جندي أصيب برصاصة استقرت في الجانب الأيسر من دماغه فأدخلته في غيبوبة لمدة طويلة جدًا، وعندما استفاق تحول من رجل عادي إلى رجل لم يعد بإمكانه فهم المنطق، أو السبب والمسبب، ولم يستطع أن يميز بين يسراه ويمناه. أحست باربرا وهي تقرأ يوميات الجندي بأنه يصف حياتها. شرح العالم لوريا في كتابه سبب معاناة الجندي، ألا وهو استقرار الرصاصة في الجانب الأيسر من الدماغ عند نقطة اتصال ثلاث مناطق يتم فيها جمع وربط البيانات الإدراكية الحسية المُدخَلة. استفادت باربرا من كتاب لوريا في فهم الوظائف العقلية التي تعالجها كل منطقة في الدماغ، وعلى الرغم من أن الكتاب لم يقدّم وصفًا لعلاج الصعوبات التي تواجهها، فإنه ساعدها في وضع معنى لهذه الصعوبات.
نقطة التحول الأخرى في حياتها عندما قرأت بحثًا للدكتور مارك روزنزويغ درس فيه أثر البيئة المنبهة والبيئة غير المنبهة على الجرذان: وجد روزنزويغ أن الجرذان التي وُضعت في بيئة منبهة -اشتملت أدمغتها على عدد أكبر من الناقلات العصبية، وكانت أثقل وزنًا ويتدفق إليها الدم بكميات أكثر مقارنة بالفئران التي وُضعت في بيئة فقيرة. لقد أظهرت هذه الدراسة لباربرا أن الدماغ لَدِن: أي أنه يمكن التأثير عليه وتعديله. وعلمت أن دورها الخاص لتجد حلًّا لصعوباتها هو أن تربط بين أبحاث روزنزويغ وكتاب لوريا، وأن تجد ما يثبت حقيقة هذه اللدونة.
عزلت باربرا نفسها، وبدأت تتدرب لساعات طويلة يومًا بعد يوم على تمارين صممتها لمعالجة جوانب ضعفها، فعلى سبيل المثال: كانت قراءة الوقت على الساعة إحدى الصعوبات التي تواجهها، فقامت بتصميم تمرين اعتمدت فكرته على قراءة مئات البطاقات التي تصور وجوه ساعات بأوقات مختلفة مع كتابة الوقت الصحيح خلف كل بطاقة، ثم قامت بخلط البطاقات كي لا تتمكن من حفظ الإجابات. بعد ذلك أخذت تسحب بطاقة وتحاول أن تذكر الوقت الصحيح، وعند نجاحها كانت تنتقل الي البطاقة التالية بأقصى سرعة ممكنة. وإذا ما عجزت عن قراءة الوقت بشكل صحيح، كانت تتمرن على ساعة حقيقية بأن تدير العقارب ببطء وتحاول أن تفهم لماذا عندما تكون الساعة ١:٤٥ يكون عقرب الساعة عند ثلاثة أرباع الطريق نحو الرقم اثنين. وعندما بدأت في الوصول للإجابات الصحيحة، أضافت عقربًا للثواني، وآخر لأجزاء الثانية. وبعد مدة لم تكن باربرا قادرة فقط على قراءة الساعة أسرع من الناس العاديين؛ بل لاحظت تحسنًا في صعوباتها الأخرى المتعلقة بالرموز. ونتيجة لنجاحها في التغلب على هذه الصعوبة، قامت بتصميم تمارين أخرى لبقية صعوباتها. طوعت باربرا مفهوم اللدونة العصبية لصالحها عندما صممت تدريبات لجوانب ضعفها، لكن هل توقفت باربرا عند هذا الحد واقتصرت على تصميم التدريبات؟
قامت باربرا بتوظيف هذا الاكتشاف لمساعدة ذوي صعوبات التعلم في مجتمعها عن طريق تأسيس مدرسة أرو سميث، والتي فتحت أبوابها للأطفال والبالغين على حد سواء في عام ١٩٨٠. في هذه المدرسة يخضع ذوو صعوبات التعلم لتقييمٍ يمتد إلى أربعين (٤٠) ساعة من أجل التحديد الدقيق لوظائف الدماغ الضعيفة، ومن ثم مطابقتهم مع التمارين المناسبة لحالتهم والتي قامت باربرا بتصميمها بنفسها، وأغلب هذه التدريبات تُقدَّم عن طريق جهاز الكمبیوتر. لقد بینت باربرا أن ذوي صعوبات التعلم یستطیعون أن یتجاوزوا التعویض (التركيز والاعتماد على جوانب القوة وإهمال جوانب الضعف) عن طريق تصحيح صعوباتهم الأساسية. واليوم وبعد أربعين عامًا، ما زالت هذه المدرسة تقدم خدماتها للطلاب في كندا وفي عدة دول خارجها (ایتون، ٢٠١٨; دویدج، ٢٠٠٧).
كما أظهرت عدد من الدراسات فعالية برنامج أرو سميث المعتمد على مفهوم اللدونة العصبية. على سبيل الذكر لا الحصر: قیمت دراسة ویبر وآخرون (٢٠١٩) النمو الإدراكي والأكادیمي لثمانية وعشرين (٢٨) طالبًا تراوحت أعمارهم بین ٩-١٧ سنة عن طریق تطبیق عدد من الاختبارات القبْلية والبعْدية، جاء الاختبار بعد اشتراكهم لمدة عام دراسي واحد في برنامج أرو سمیث. وقد أظهرت العینة نموًّا معرفیًّا وأكادیمیًّا وتحسنًا في المجالات الفردیة، بالإضافة إلى أن بعض مجالات النمو المعرفي والأكادیمي ظهرت مرتبطة بشكل أكبر مما كانت عليه قبل تطبیق البرنامج. وأظهرت دراسة یقاني وآخرون (٢٠٢٠) وجود علاقة إیجابیة بین برنامج أرو سمیث المعرفي المكثف لمدة ٦ أسابیع وبین سرعة المعالجة المعرفیة وسرعة الإدراك الحسي والكفاءة المعرفیة والمفردات الشفهیة والتعلم السمعي البصري لعینة مكونة من ثلاثة عشر (١٣) طالبًا تراوحت أعمارهم بین ٩ و١٦ سنة.
لنتوقف قليلًا أمام ما حدث في قصة باربرا، تحديدًا: ما علاقة التدريب بالدماغ؟ وماذا نعني باللدونة العصبية؟ نجاح باربرا في التغلب على صعوبتها ونجاح برنامجها هو مثال حي على أن الدماغ يمكن التأثير عليه وأن تركيبه يمكن تغييره بالتدريب: أي أنه مثل العضلة، تقوى بالتدريب وتضعف بالإهمال. في الواقع أظهر علماء رواد علم الدماغ أن الدماغ يغير تركيبه عند تعريضه لنشاط ما باستمرار: فإذا أصيبت أجزاء معينة منه بالقصور، فإنه بالتدريب يمكن لأجزاء أخرى أن تتولى المهمة بالنيابة عنها. أطلق هؤلاء العلماء على هذه الخاصية اسم “اللدونة العصبية “neuroplasticity” والتي تعني: ليونة الخلايا العصبية وقابليتها للتغيير. وبمعنى آخر: قدرة الدماغ على التغيير والتكيف نتيجة للتجارب التي يتعرض لها. فالتعرض لنشاط ما باستمرار لفترة من الزمن يؤدي إلى تكرار اتصال الخلايا العصبية في نفس المنطقة الدماغية؛ وبالتالي قوتها وقوة الوظيفة المسؤول عنها هذه المنطقة.
الاعتقاد الطبي والعلمي الذي كان سائدًا واستمر طوال أربعمائة (٤٠٠) سنة هو أن الدماغ یشبه الآلة: أي أنه ذو تركیب بنیوي ثابت، إذا تلف جزء منه فإنه لا يمكن تعديله. في حين أن مفهوم اللدونة العصبیة شبّه الدماغ بالبلاستك من حیث لیونته وقابلیته للتغییر، إذا أخفق جزء منه فإنه من الممكن أن يحل جزء آخر محله؛ وبالتالي فإن الإهمال المستمر لوظيفة دماغية ما يؤدي إلى ضعفها بسبب قلة اتصال الخلايا العصبية في المنطقة المهملة (دویدج، ٢٠٠٧). ومن فوائد لدونة الدماغ العصبية أنها تساعد على تعزيز القدرة المعرفية الحالية، والقدرة على تعلم أشياء جديدة، وتعزيز لياقة الدماغ، بالإضافة إلى تقوية بعض المجالات في حالة فقدان بعض وظائفها أو تدهورها (فيموري وآخرون ٢٠١٤; فوز وآخرون، ٢٠١٧).
ما أهم الدروس المستفادة من هذه المقالة؟ من المتعارف عليه أن من يقومون باكتشافات مهمة تخص الدماغ هم غالبًا العلماء وليس الأشخاص ذوو الإعاقة، لكن قصة باربرا أثبتت عكس ذلك. لقد أثبتت أن أي شخص باستطاعته أن يصنع المعجزات إذا كان لديه إيمان بالذات مع إرادة قوية، وحب للقراءة، وتوظيف للمعرفة الناتجة من هذه القراءة. الدرس الثاني هو أهمية مفهوم اللدونة العصبية في جميع الممارسات اليومية التي نقوم بها؛ لأن الدماغ -كما أظهر مقالنا هذا- يتأثر بالعوامل الخارجية المستمرة؛ وبالتالي يجب الانتباه إلى الممارسات اليومية التي تحسّن من قدرة وظائف الدماغ، والممارسات التي تودي إلى تدهوره.
ختامًا، اسمحوا لي أن أستثير أذهانكم من خلال التساؤلات التالية: ما مدى وعي مجتمعنا بمفهوم اللدونة العصبیة؟ وكیف یؤثر هذا الوعي على ممارساتهم مع ذوي الاحتياجات الخاصة بالتحديد؟ وإلى أي مدى تراعي البرامج الفردیة التعلیمیة لذوي الاحتياجات الخاصة شروط هذا المفهوم؟
المراجع
Eaton, Howard. (2018). The Brain Pioneer: The True Story of How Barbara Arrowsmith-Yong Used Brain Science to Help Children with Learning Disabilities: Glia Press.
Doidge, Norman. (2007). The Brain That Changes Itself: Stories of Personal Triumph from the Frontiers of Brain Science. New York: Penguin Group.
Rachel C. Weber, Ronan Denyer, Negin Motamed Yeganeh, Rachel Maja, Meagan Murphy, Stephanie Martin, Larissa Chiu, Veronique Nguy, Katherine White & Lara Boyd (2019). Interpreting the preliminary outcomes of the arrowsmith Programme: a neuroimaging and behavioural study, Learning: Research and Practice, DOI: 10.1080/23735082.2019.1674908
Negin Motamed-Yeganeh1, Lara Boyd2, Rachel C. Weber3 (2020).Preliminary Effects of the Arrowsmith Intensive Program on Student Cognitive Functioning. The International Neuropyschological Society Conference, Vienna.
Vemuri P, Lesnick TG, Przybelski SA, Machulda M, Knopman DS, Mielke MM, Roberts RO, Geda YE, Rocca WA, Petersen RC, Jack CR Jr. (2014). Association of lifetime intellectual enrichment with cognitive decline in the older population. JAMA Neurol. 71(8):1017-24. doi: 10.1001/jamaneurol.2014.963
Voss P, Thomas ME, Cisneros-Franco JM, de Villers-Sidani É. (2017). Dynamic brains and the changing rules of neuroplasticity: implications for learning and recovery. Front Psychol. 2017;8:1657. doi:10.3389/fpsyg.2017.01657
Image by hainguyenrp from Pixabay
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *