من منا لم يستمع يومًا إلى حكاية مؤامرة عميقة يرويها احدًا ما لنا أو تتداولها وسائل التواصل أو يطرحها الإعلام للعامة، حتى أصبح مصطلح (نظرية المؤامرة) لا يغيب عن الأحاديث اليومية، وأصبحنا نجهل طبيعة تلك الحكايات ولا نعلم إذا كانت وهمًا أو حقيقة!
وفي الحقيقة جميعنا قد يصَل بنا الحال بعد التعمق في تلك النظريات إلى تصديقها بعيدًا عن العلم والمنطق، وهذا متوقع فلا أحد محصن من الوقوع فريسة لنظريات المؤامرة.
وتزدهر نظرية المؤامرة في أوقات الأزمات، وحاليًا في الوقت الحالي للأزمة الراهنة لكوفيد19، من المرجح أن تعتبر هذا الأزمة التي مسّت العالم كله، بيئة خَصبة جدًا لترويج نظرية المؤامرات، فالمؤامرات التي تم تداولها في ظل ازمة كوفيد19 كانت واسعة الانتشار وخلقت كثيراً من الشكوك لدى الكثير من الأشخاص وطرحت الكثير من التساؤلات، منها: هل هذا الفايروس بالخطورة التي يروّج لها؟ هل نحتاج حقًا للبس الكمام واتخاذ كل هذه الإجراءات الاحترازية؟ هل تم خلق هذا الفايروس بشكل مُتعمد من قِبل شخص أو مجموعة؟ هل تم تطوير هذا الفايروس بهدف بيع لُقاح بمبالغ ضخمة من قِبل الدول المُتقدمة؟ هل اللقاح آمن أو له مضاعفات خطيرة جدًا؟، ولا زلنا في صدد التعامل مع المزيد من تلك النظريات التي تُطرح من قِبل بعض الأشخاص ممن لديهم هوس نظرية المؤامرة وأنهم أشخاص مُستهدفين! (Douglas, 2020).
وأثق تمامًا أن نظريات المؤامرة تتجاوز سلبياتها خلق بِضعة شكوك إلى أثار سلبية على الصحة العامة؛ لأنها تدفع بالأفراد إلى الاستهانة بخطورة الفايروس وتجاهل نصائح المختصين في مجال الصحّة العامة، بالإضافة إلى ضررها على الصحة النفسية وزراعة الشك والخوف، وعيش وهم هذه المؤامرات، الذي قد يؤدي إلى انعكاسات خطيرة جدًا على الافراد والمجتمعات، إذا لم يتم التعامل معها بشكل جدّي.
قد تتساءل كمهتم في مجال علم النفس، وكقارئ لهذا المقال، ماهي العواقب النفسية لتصديق تلك المؤامرات؟ وقبل اجابة هذا السؤال، من المهم أن نعرف الأسباب والدوافع وراء تبني هذه النظريات وتصديقها والإيمان بها، ففي دراسة Douglas ( 2017)، ذكر الباحثين أن هناك عددًا من الدوافع التي تجعل الشخص يميل لتصديق المؤامرات أو حتى اختلاقها، فقد تكون دوافع معرفية تنتج عن الرغبة في تلبية الفضول للمعرفة عندما لا تتوفر المعلومات الكافية لديهم وإيجاد معنى للأحداث غير الواضحة بالنسبة لهم، ويمكن أن تكون وسيلة ليستخدمها الشخص في الدفاع عن معتقداته، أو قد تكون ناتجة عن دوافع وجودية، فتوفر لهم المؤامرة التي يصدقونها الشعور بالأمن والاستقلالية وقوة السيطرة وقدرتهم على التحكم بالأمور، بالإضافة إلى وجود دوافع اجتماعية تتمثل في الرغبة بالحفاظ على الإيجابية والتخلص من شعور الذنب بلوم الآخرين على النتائج السلبية للأحداث وتعتبر كوسيلة دفاعية لمن يشعرون بالضعف وقِلة الحيلة.
وذكرت دراسة (Lantian et al. (2017، أن نظريات المؤامرة تجذب الأشخاص الذين لديهم حاجة مزمنة للشعور بالاختلاف عن الآخرين، وتجعل الشخص يمتلك معلومات غريبة وغير تقليدية ونادرة وبالتالي تسمح لهم بالشعور بالتميّز مقارنة بالآخرين، وبذلك تلبي حاجة الشخص إلى التفرد.
وللعودة للإجابة عن التساؤل السابق، فإن نظرية المؤامرة تعتبر إدمان سلوكي يؤثر على طريقة الشخص في إدراك الأحداث من حوله. فبدلاً من محاولة التغلب على المشاعر السلبية، فإنه يلجأ إلى الإيمان بالمؤامرة ويخلق المزيد من المواقف السلبية، ويعتبر الأشخاص الأقل سِنًا أكثر عُرضة لتصديق هذه المؤامرات والإيمان بها، فتشير (Douglas (2021 في مقابلة صوتية: “أنه كلما تقدمت في العمر، قل إيمانك بنظريات المؤامرة والعكس”.
ويؤثر هذا الإدمان على الشخص فيجعله في حالة ارتياب وقلق وخوف دائم بدون سبب، وفقدان السيطرة، ويصل به إلى الشعور بعدم الانتماء والعُزلة، والشعور بالاغتراب النفسي والاستياء من المجتمع، … وغيره من التبعات السلبية المؤثرة بشكل مباشر على الصحة النفسية للفرد الذي يميل إلى تصديق نظريات المؤامرة، ويمكن أن يسبب إدمان نظرية المؤامرة ضررًا نفسيًا واجتماعيًا طويل المدى للفرد. (Cherry, .2020)
وللتغلب على إدمان نظرية المؤامرة، فلا بد من اللجوء للعلاج والإرشاد النفسي، وأعتقد أن التعامل مع هذا النوع من الاضطراب قد يكون من المفيد جدًا فيه الاستعانة بتقنيات وفنيات العلاج الانفعالي العقلاني؛ لمحاولة تغيير طريقة تفكير المسترشد ودحض الأفكار اللاعقلانية وتبني أخرى أكثر عقلانية ومنطقية، ومن المهم للمرشد تبصير المسترشد بحقيقة هذه المؤامرات وأنها مجرد وهم، حتّى يصبح على يقين أن من حوله لا يهدفون إلى إيذائه وليسوا ضدّه، وأن يكون قادرًا على تحليل المعلومات والتمييز بين نظريات المؤامرة الخاطئة والتهديدات الحقيقية.
وعلى المرشد أن يعلم أن علاج هذا النوع من الاضطراب ليس بالأمر السهل ويكون صبورًا في هذا التدخل العلاجي؛ لأن غالبية المصابين به لا يعترفون بوجود خلل ما لديهم، وقد يرفضون بدورهم الخضوع لأي علاج، فعليه أن يحاول الوصول إلى النقطة التي تجعل المسترشد يعترف بالمشكلة وتأثيرها السلبي عليه ويصبح فيها راغب في المساعدة والعلاج.
وأعلق خِتامًا، أننا في ظل المواقف والخبرات المُختلفة التي نمر بها، فنحن في حاجة إلى تحكيم الوعي لا تغييبه عن مواجهة الحقائق والوقائع، مع التأكيد على عدم تداول مثل تلك الأفكار المضللة ونشرها، والثبات لا الهروب عن مواجهة الأخطاء والسلبيات التي تعترض طريقنا بتصديق أوهام ومؤامرات أبعد ما تكون عن الصِحة والمنطق.
المراجع:
American Psychological Association. (2021, Jan11). Speaking of Psychology: Why people believe in conspiracy theories, with Karen Douglas, APA Journal Dialogue, Episode 124. https://www.youtube.com/watch?v=5MgBnl-fe4A
Cherry, k. (2020, September19). Why People Believe in Conspiracy Theories. Verywell Mind. https://www.verywellmind.com/why-people-believe-in-conspiracy-theories-4690335
Douglas, k. (2020, May29). Psychological Science and COVID-19: Conspiracy Theories. News wise. https://www.newswise.com/coronavirus/psychological-science-and-covid-19-conspiracy-theories
Douglas, k., Sutton, R., & Cichocka, A. (2017). The Psychology of Conspiracy Theories. Current Directions in Psychological Science, 26 (6), 538–542.
https://doi.org/10.1177%2F0963721417718261
Lantian, A., Muller, D., Nurra, C., & Douglas, K. (2017). “I Know Things They Don’t Know!” The Role of Need for Uniqueness in Belief in Conspiracy Theories. Social Psychology,48 (3), 160-173. https://doi.org/10.1027/1864-9335/a000306
Image from: https://hbr.org
كتابة: بشاير محمد الشهري
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *