لا يشك عاقل أن القراءة هي إحياء لعقله، لكن هذه الحياة لا تدوم طويلًا إن لم يصاحبها وقوف وتأمل أمام حُجب الأفكار.
والتأمل وحده لا يكفي بل لا بد من تفكيك الفكرة لتعرف صحتها من سقمها، ثم تُجفِّفها من شوائب عقلك السابقة ليصح الحكم، بعض الأفكار ترتدي رداء الكمال، وما إن تهب عاصفة فكرية يقظة إلا وتكشف عن عوقها، والعاصفة الفكرية هي بنت التفكيك والتحليل والتركيب، ومع تفكيك الأفكار تظهر الإعاقات الفكرية، ومع محاكمتها تتيقن أنها فكرة مبتورة القدم أو مقطوعة اليد أو منزوعة الرأس، فكيف يُعالج القارئ الأفكار المعاقة التي تعترضه عند قراءته؟ يُعالجها بعد تفكيكها ومعرفة علتها بـ ( التركيب).
فالفكرة لن تسند قائمة وتصلب طولها وتُبعث حية إلا بعد تركيبها من عدة أفكار أخرى، والقراءة التفكيكية التركيبية هي التي تحمي عقل القارئ من التشويه المحتمل، لكن إياك أن تفكك الفكرة ثم تُلقي بها في أرض بور ولا تعيد تركيبها فيلتقط الجاهل أجزاء منها ويثقل عليه بقيتها، فيشده الفُتات عن جادة الطريق، ومن الكتّاب من يفعل هذا، فثمَّة كاتب في كتابه كالقبطان في البحر يبحر بك في بحر لُجّي يقود السفينة بدُربة عالية ما إن تقارب السفينة على الوصول إلى الشاطئ حتى يتخلَّى عن مقوده ويقعد ليستريح، فتصارع السفينة الأمواج لوحدها فإما أن تغرق، أو تسير في غير اتجاه، وهكذا يفعل الكاتب يبحر بك في فكرة ما وأنت على وشك الوصول لمعناها الكبير وسرها الدفين يتركها في البحر ويقفز بك إلى أخرى، فلا هو وصلها لتستظهرها وتفهم، ولا هو أهداك خارطة نجاة تنقذها، ولا هو تركها لقلم يعي جدير به أن يأخذها إلى البر.
وكل فكرة كالبناء فلو بنى أحدهم منزلًا وبين كل لبنة ولبنة ترك فراغًا فكم من الهوام ستهجم على المنزل؟! وكم من الدّواب ستسكنه؟! فيصبح العقل مع هذه الأفكار كالبيت الخرب، ونحن لسنا ضد تحريك عقل القارئ وترك استفهامات تقوده للبحث والتحري عن مدلولات الفكرة، لكننا ضد فتح جبهات للقتال وتركها بدون أسلحة وحصون منيعة، فلابد أن يكون القارئ يَقظ العقل بالحروب الفكرية التي تتأهب لتزرع نفسها في رأسه، وكما قال أوس بن حجر: (وإني امرُؤ أعددت للحرب بعدما… رأيتُ لها من الشر أعصَلا) ولكل صاحب رسالة إما أن تُبني بفكرتك فكرة أعظم، وإلا فاترك الأرض رهوًا لغيرك يبنيها ناطحات للفكر تحُفها جنان العلم، وتظلها سماء الوعي والبصيرة.
كتابة: عزيزة الشهري
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *