إن الوعي بأهمية فهم العلاقات وبناء جسر متين بينها أحد الأسس التي سيؤتى ثمارها لجميع أطراف العلاقة وهذا لا يتحقق إلا برؤى وأهداف واضحة، واقعية، مشتركة.
وبالنظر للعلاقة بين أهم مؤسسات المجتمع التي تعمل على تنشئة الأطفال وبناء شخصياتهم وإكسابهم القيم والاتجاه الفكري ألا وهما الأسرة والمدرسة، فلابد وأن نتجه لتقييم هذه العلاقة ومدى متانتها وبالتالي فاعليتها. غير أن واقع العلاقة بينهما على أرض الواقع يشوبه الكثير من التحديات التي أحدثت فجوات واسعة على الرغم من أن اتحاد هاتين المؤسستين بشراكة فاعلة يسهم في الحد من المشكلات التي يواجهها الأطفال في مراحل حياتهم المختلفة على المستوى الفكري والسلوكي والقيمي والأكاديمي، والذي بدوره يقودهم إلى مستقبل ما.
تعرف العلاقة في معاجم اللغة بأنها الرابطة التي تربط بين شخصين أو شيئين. فهل هذه الرابطة محددة المعالم لكلا الطرفين أم أنها مبْهَمة؟ وما النموذج المتصور لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين المدرسة كمؤسسة تعليمية تربوية والأسرة كمؤسسة اجتماعية تربوية؟ لقد تم مناقشة هذا التساؤل ميدانيا مع عددٍ من معلمات الطفولة المبكرة في مجتمعات التعلم المهني وأولياء أمور الأطفال فنشأ عنه هذا المقال..
التواصل ضرورة ماسة في التربية والتعلم للأطفال مع التشديد على الجودة في ذلك، والتي لا تتحقق لمجرد الحضور “الصوري” لاجتماعات أولياء الأمور ولا بإصدار الأوامر من إدارة المدرسة، بل بوضع نقطة تلاقي بين المؤسستين ونقاش معايير كلٌ منها لإيضاح الصورة مما يقودنا إلى تساؤل هام:
ماذا قدمت المدرسة للطفل وأسرته؟ وفي المقابل ماذا قدمت الأسرة للطفل ومدرسته؟
لنبدأ بالتصور الخاص بالمدرسة: حيث يتعلم الطفل بأفضل الطرق والاستراتيجيات في بيئة إيجابية محِبه يقع على عاتقها وضع الخطط والبرامج لتطوير شخصية الطفل ومهاراته وقدراته. كذلك التعاون مع الأسرة في تعديل وإكساب السلوك. تقديم التثقيف المستمر للأسرة والمعلم والطفل، وفي هذا الصدد أقترح أن يكون لمكاتب التعليم الدور المحوري في هذا الأمر عبر استضافة مختصين والتنسيق مع جهات مختلفة بعد حصر الأفكار والموضوعات المتجددة والتي تحتاجها المدارس بمنسوبيها من المعلمون والأطفال، والأسر بقطبيها الأم والأب. وإسناد إدارة هذه اللقاءات لمعلمين ومعلمات يتم ترشيحهم لذلك، أما عن مكان عقد اللقاء فيكون على منصة (مدرستي) بعد إضافة أيقونة “مكتب التعليم” حيث تظهر الخدمات المقدمة والإعلان للمدارس المستفيدة.
العمل بهذا النسق سيجعل مستوى الخدمات أجْوَد وأكثر جدية لدى المستفيد حيث يصدر عن جهة إدارية من الوزارة وليست أفراد، بالرغم من ما يبذله الأفراد من جهود مضاعفة لكثرة التحديات في هذا الجانب حيث اختيار الجهة والمختص المناسب ثم التواصل مع عدد كبير -الأغلب- يقابل بالرفض إن كان بدون أجر مادي و كلفة الاستضافة بمبالغ هائلة ولوقت قصير، ثم إن تمت الموافقة يتم الرفع بطلب لمكتب التعليم لفحص السيرة الذاتية والمحتوى الذي سيقدمه المختص وهذه خطوة هامة تكشف الدقة وإدراك لأهمية الأمن والوعي الفكري وهي خطوة مباركة، وهذا سيكلف وقتا غير معلوم حتى تصل الموافقة ومن ثم سيكون هناك تنسيق جديد يتوافق بين وقت المختص ووقت أحداث وأنشطة المدرسة. التنظيم يختصر علينا الكثير ويسرع لنا الاستفادة والوصول لنتائج أكثر إرضاءً وفاعلية.
التواصل بين هاتين المؤسستين في الميدان التعليمي الحكومي -على وجه الخصوص- مفتوح وغير منظم بإطار يضمن جودة التواصل والتوثيق فلكل معلم طريقته في التواصل إما عبر وسائل الاتصال المتاحة (WhatsApp، Telegram، Gmail) وغيرها من وسائل الاتصال برقم المعلم وجهازه الخاص وهذا غير مناسب لأي معلم/ة -غالباً- وأجده أسلوب غير مبرر في ظل وجود منصة متجددة مثل (مدرستي) والتي ننتظر تطويرها في هذا الجانب بما يضمن التواصل عبر الرسائل وإمكانية الاتصال الصوتي والفيديو بذات “المرونة” عند استخدام الوسائل المستخدمة في الواقع لدى المعلمين دون الحاجة لاستخدام رقم بل حساب المعلم الوزاري وهذا سيعود بالفائدة على المعلم من ناحية التواصل والتوثيق والخصوصية، وكذلك ولي الأمر من ناحية التواصل الموحد دون الحاجة للتنقل بين التطبيقات لكل معلم على حدة، ولكل طالب/ة من أبنائه مما يشتته ويرهقه مع تعدد الوسائل وكثرة الرسائل فيها.
أما الأسرة: فتمتلك حجر الأساس والمسؤولية التامة في التربية الحسنة السوية للطفل، والتعاون مع المعلم والمدرسة فيما يخدم الطفل ويطوره في المجال الدراسي وبناء الشخصية والجانب الفكري/التربوي/السلوكي/الاجتماعي والنفسي، والشراكة مع المدرسة بالتواجد الفعال والتضامن مع أولياء الأمور لخدمة الأطفال ليكون جزء من تطور مجتمع المدرسة وأطفالها، أن يقدم ما يستطيع باستخدام مهارات يتقنها أو اختصاص يطوعه للمشاركة مع المدرسة بما يخدمها أو جزءً منها. وقد بينت دراسة (إبراهيم القاعود، رياض القاعود، 2018) أنه كناتج للعولمة فإن الأسرة لم تعد تقوم بوظائفها (الفكرية، الدينية، الثقافية، النفسية، والاجتماعية) بشكل سليم، برغم ما يبذلونه من جهود في ذلك وقد عزو ذلك إلى ظهور متغيرات أثرت على وظائف الأسرة كوسائل الاتصال والتكنولوجيا التي تتبنى النمط والمنظومة الغربية في التأثير على التنشئة الاجتماعية.
وحتى تكون هذه العلاقة ذات أثر ملموس على أرض الواقع لابد وأن تكون تكاملية وليست مبتورة كما هو الحال عندما يفقد أو يَضْعف التواصل مع ولي الأمر ويكون العطاء من قبل طرف المدرسة وحدها مما يعيق فرص تطور الطفل وكذلك عمل المدرسة وعلى وجه التحديد المعلم الذي سيبذل جهد مضاعف للتواصل وإعداد الخطط لتطوير هذا الطفل مما سيؤثر سلبا على وقته وجهده الذي باستطاعته توجيهه لوجهة أخرى أكثر فائدة لذات الطفل. وعلى النقيض هناك المعلم الذي ينحصر دوره في تقديم الدرس ويتجاهل أهمية دوره كمرشد أكاديمي يعين الطفل وولي الأمر بأفضل الطرق التي تطوره وتضمن تعلمه وتعالج نقاط الضعف لديه.
ومن العلاقات أيضا التي تؤثر سلبا على الطفل والمعلم والأسرة هي (علاقة الندية) والتي قد يواجهها حتى المعلم الأكثر اجتهاداً واهتماما بالطفل كأن يسجل ملاحظاته أولاً بأول ويتواصل مع الأسرة ويضع الخطط ليصل لنتيجة ما في مهارات وسلوكيات ذلك الطفل، فيكون التفسير -الغير منطقي- من ولي الأمر أنه “استقعاد” لابنه! بل أنه قد ينحصر تجاوبه بإلقاء التهم العشوائية على المعلم وعلى زملاء طفله بدلاً للحوار العقلاني ونقاش نقاط الضعف والقوة وكيفية العمل عليها جنبا إلى جنب بتكاتف الجهود، لسنا في ساحة نزال يفوز فيها الأشرس! بل هي علاقة إنسانية مبنية على حقوق وواجبات لجميع الأطراف، لكن هكذا نموذج غالبا ما يحدث عندما يتملص ولي الأمر من مسؤولياته تجاه طفله في جوانب التعلم والسلوك أو “كميكانيزم” دفاع لما يضمره من شعور بالخوف لصد شك أو حقيقة معلومة لمعاناة طفله من أمر ما فيكون الإنكار والهجوم حجر العثرة في طريق تطور هذا الطفل.
فكما خلصت دراسة (بوغازي الطاهر، 2014) إلى أن التلاميذ المتوافقين نفسيا والناجحين دراسيا هم أولئك الذين حصل لهم انسجام في القيم بين أسرهم والمدرسة. وهذا ما أكدته نتائج دراسة (مختاري، عمر، 2020) والتي توصلت إلى أهمية التعاون والتواصل والتفاعل بين الأسرة والمدرسة لأجل عدد من الأسباب أهمها:
أولاً: تحقيق الأهداف التربوية وذلك عن طريق تنسيق الوسائل في ضوء التفاهم والتحديد الواضح للأهداف.
ثانياً: تحقيق النمو المتكامل للنواحي (الجسمية والحسية والحركية والاجتماعية والعقلية واللغوية) وهذه مهمة الأسرة وتساعدها بعد ذلك المدرسة في تنميتها.
ثالثاً: القضاء على الصراع الناشئ عن التعارض في وجهات النظر بين الأسرة والمدرسة.
رابعاً: تقليل الفاقد التعليمي والذي ينشأ نتيجة لمشاكل أسرية أو اجتماعية أو اقتصادية أو مدرسية لذلك، التعاون بين هاتين المؤسستين ضروريا لتلافي ذلك.
خامساً: لأجل التكيف مع التغير الثقافي فالتربية هي وسيلة إحداث هذا التكيف وتكوين النظرة العقلية المنفتحة لتقبل التغير ومعايشته وتوجيهه لصالح الفرد والمجتمع.
ومع الاتجاه للتكنولوجيا والعالم الرقمي في المدارس والجامعات وكافة الجهات الحكومية في المملكة العربية السعودية صار لزاما علينا جميعا مواكبة هذا الانتقال كمعلمون وأولياء أمور دون التذرع بـ (لا أعرف) فمصادر المعرفة كثيرة ومتاحة للجميع بل إن استخدام هذا النوع من الذرائع يجعل الأفراد متوحدون في صندوق عدم المعرفة، بينما الآخرون جميعا قد ثبتوا جذور قيمة التطور التكنولوجي والمعرفي ونمت وعَلَت بهم وجعلتهم في حالة موائمة بين الواقع والمأمول من المستفيد.
ميدانيا نحن نلمس انعكاس ذلك على جودة التواصل فمثلاً عندما يعقد اجتماعات عن بعد لمناقشة موضوعات هامة كخطة سير العمل والأهداف والرؤى أو التحديات التي يواجهها الأطفال في المدرسة أو أولياء أمورهم مما يقرب بين عمل المؤسستين عبر الالتزام والتفاعل. كذلك عندما يعقد المعلم اجتماعات (ارشاد أكاديمي) فيتخلف أحد الفئات المستهدفة عن الحضور لابد وأن يكون له تأثير ما سلبيا.
لتمد كل مؤسسة يد العون والمسؤولية لتحقيق ما تصبو له على أرض الواقع فينتفع جميع الأطراف لدى تلك المؤسسات وتتم مجابهة التحديات بصلابة، وكما يقول الشاعر أحمد شوقي:
إنَّ التَعاونَ قوَّةٌ علوِيَّةٌ … تَبْني الرِجَالَ وتبْدِع الأشْيَاء
Image from: freepik.com
كتابة: أمل بنت طاهر الأسود
2 تعليقات
2 التعليقات
منال
مايو 17, 2023, 10:11 صأشكر الأستاذة / أمل طاهر على المقال الأكثر من رائع و كذلك كل من يأخذ بإستراتيجية هذا الحوار و يطبقها على أرض الواقع جزيل الشكر .. بكمية الوعي العالية هذه نبني جيل واعي يرتقي المجتمع به ..
الردنور
يونيو 16, 2023, 7:51 مبارك الله فيكم على المجهود الذي تقدمونه
الرد