يوجد فرق واضح في مصطلحات علم اللغة الحديث، بين علم المفردات أو الألفاظ LEXICOLOGY والصناعة المعجمية LEXICOGRAPHY، فالأول يشير إلى دراسة المفردات ومعانيها في لغة واحدة أو في عدة لغات، كما يهتم باشتقاق الألفاظ وأبنيتها ودلالاتها المتعددة والتعابير الاصطلاحية والمترادفات.
أما الثاني فيقوم بخمس مهمات أساسية هي: جمع المعلومات والحقائق واختيار المداخل وترتيبها طبقا لنظام معين وكتابة المواد ثم نشرها في شكل معجم[1]. ومن ثمة فالصناعة المعجمية تعتمد علم المفردات لكنها علم مستقل عنه.
يرى الأستاذ الفاسي الفهري أن أي صناعة معجمية لابد أن تمثل ثلاث كفايات أساسية لبلورة الأهداف من وضع المعجم وكذا أخذا بعين الاعتبار المستعمل المستهدف، وهي:
أ. الكفاية اللغوية/ المعجمية لمتكلمي اللغة ومستعمليها، التي ترتبط بزمن محدد سانكرونياً، تتداول فيه اللغة بعيدا عن اللغة المهجورة، مع اعتماد النصوص الحديثة وتوضيح مرجعيات حصر المادة.
ب. الكفاية التعلمية التي تمكن المستعمل من اكتساب كفاية القرن الملائم بين الكلمة ومعناها في تركيب وسياق مناسبين.
ج. الكفاية الوسائطية التي تعتمد الوسائل الالكترونية الحديثة: التقنيات السمعية البصرية، محركات البحث.
فيما يخص هذه الكفاية، يؤكد الفهري أن المعاجم العربية، الورقية والإلكترونية على السواء، لازالت قاصرة عن تحقيقها، فبالرغم من محاولات توظيف التكنولوجيا الحديثة: إنشاء قواعد ضخمة للمعطيات والمحللات الصرفية والتركيبية والدلالية، فإن الوضعية لم تراح مكانها جذريا، وهو ما أرجعه إلى أن المعجم أصبح يدور في حلقة مفرغة تتسم بتكرير المواد القديمة نفسها، بل وتنظيمها بالطرق نفسها، مع إقصاء المادة المعجمية المستعملة في عصرها بتراكيبها ومعانيها وعلائقها أفقيا وعموديا، وبالتالي عدم التمييز بين الماضي والحاضر في استعمال اللفظة.
أولاً: الكفاية المعجمية ودور المفردات في بلورتها
يتجلى أساس اكتمال الكفاية المعجمية عند متكلم اللغة في القدرة على إقامة العلائق الملائمة بين لفظ الكلمة وما يمكن أن تسهم به من معنى داخل بنية تركيبية/ دلالية، فالمفردات إنما تأخذ معناها الفعلي من خلال اندماجها في بنية ومجال معرفي وسياق معين. لكن هذه الكفاية تواجه مشكلة تطور اللغة عبر التاريخ وبالتالي لا يمكن حصر اللغة عبر قواعد ومعطيات تامة لا تتغير.
وهو ما جعل الفهري يذهب إلى أن الكفاية المعجمية للغة تتمثل في وجود نظام حاسوبي يعالج الدخلات المعجمية Lexical entries من خلال القيام بعمليتين ضروريتين لبلوغ معنى الكلمة أو معانيها: عملية تفكيك أو تحليل للكلمة، لأنها لا تحمل معنى ذريا Atomic لا يقبل التحليل. يورد الأستاذ الفهري مثال[ألبنت البقرة]، حيث لا يمكن أن نصل إلى فهم العلاقة بين اللبن وهو أصل الاشتقاق والفعل المشتق منه على اللزوم، إلا بقرن هذه الكلمة ببنية للصيرورة أي (صار للبقرة لبن). وهكذا فالمفردة لها بنية مكبوسة Compressed وتولد بنيتها الدلالية بفك كبسها. (احتمال الكلمة لعدة معان تفهم من السياق).
ومن جهة أخرى نجد الكلمة تفْرِز عناصر دلالة خارجية لا تُبْرز إلا عند تركيبها في جملة، نقول مثلا: (طوف الرجلُ) أي طاف كثيرا و (طوفتُ الرجلَ) أي جعلته يطوف، أو (أبطأ الرجلُ) و (أبطأتُ الرجلَ). فمعنى التكثير يبرز مع اللازم ومعنى الجعل يبرز مع المتعدي.
ويشير الفهري إلى أن الصيغ لا تنوب عن بعضها كما تواتر في المعاجم العربية، حيث تصبح نعل ونعل وانتعل كلها بمعنى واحد. كما أن المعاجم لا تجشم نفسها عناء تنظيم اللفظة في صيغها التركيبية الأفقية Syntagmatic والعمودية Pradigmatic حين يتم تركيبها في بنية جُمْلية.
ثانياً: غياب معجم عربي خطي في ترتيب المواد:
من المفترض في ترتيب مواد المعجم ودخلاته أن يسهل عملية البحث عن المفردة من حيث معانيها واشتقاقاتها واستعمالاتها، وذلك بربط الصلة بين اللفظة النصية والكلمة المعجمية، لكن هذا الأمر غائب في المعاجم العربية. لأنها لا ترتب الكلمات كما ترد في النصوص، إضافة إلى أنها لا تدخل في حسبانها ترتيب الكلمات باحتساب الحركات (الضمة، الكسرة، الفتحة). بمعنى غياب معجم خطي عربي Linear dictionary يأخذ بعين الاعتبار توالي السواكن والحركات: س/ ح . كما هو موجود في المعاجم الهندأوروبية. بل نجد بعض المعاجم العربية كالمعجم الأساسي يهمل همزة الوصل فـ: ابن، غير مرتبة في الألف وقس على ذلك جميع الكلمات المبتدئة بهمزة وصل، في نجد بعض المعاجم ترتب هذه الكلمات في همزة القطع، وأحيانا نجد بعض المواد ترتب دخلات لا تنتمي إليها مثل الماء ترتب في موه وأكد ترتب في وكد، علاوة على أن جميع المعاجم لا تلقي بالا إلى الكلمات النصية مثل: (عِدْ) أمر وعد و (قِ) أمر وقى. وهو ما جعل هذه المعاجم تخرق الكفاية التعليمية، لأنها تفترض أن المستعمل يعرف اشتقاق الكلمة وتصريفها قبل البحث عنها في المعجم. (للمزيد من الأمثلة تراجع ص: 30 وما بعدها).
ثالثاً: عدم عصرية المادة المعجمية:
يرى الأستاذ الفهري أن المعاجم العربية )العصرية( لم تجدد مادتها، فهي عموما مادة قديمة، مع عدم الفصل بين ما هو تاريخ للغة وما هو حاضرها، بين ما هو دياكروني وما هو سنكروني.
وقد مثل لهذه المسألة بمقاربة دخلة (بلور) ودخلة (عنُفَ) في عدة معاجم : المعجم الوسيط و منجد اللغة العربية والمعجم العربي الأساسي (للمزيد من الأمثلة تراجع ص: 34 وما بعدها). وخلص إلى أن هذه المعاجم تورد هذه المادة : مجردة ومزيدة بالهمزة أو التشديد، على أنها تحمل نفس المعنى. كما أنها لا تشير إلى بعض الكلمات الحديثة مثل: عولمة، صاروخ، طائرة، وزارة… في حين تشير إلى بعض الكلمات مثل: خصخصة دون ربطها بمعناها المعاصر الذي يحمل أبعادا اقتصادية وايديولوجية، وإهمالها لكلمة خوصصة على كثرة تداولها، مما يبعد هذه المعاجم فعلا عن العصرية.
رابعاً: في الشاهد والمثال:
من المعلوم أن الشاهد يحظى بأهمية قصوى في المعاجم العربية القديمة، لكن الملاحظ أن المعاجم العربية تكاد تكون خالية من الشاهد، قديمه وحديثه، إلا ناذرا ودون تعميق النظر فيه. (للمزيد تراجع ص: 37 وما بعدها).
خامساً: في التعريف:
يعتبر التعريف أداة منهجية ناجعة في تفكيك الكلمة وتوظيفها في تركيب وسياق محددين بدلالة خاصة، وهو الأمر المفقود، حسب الفهري، في معاجمنا العربية، فعلى الرغم من توظيفها للتعريف، إلا أنها تعاريف غير دقيقة، مع عدم ملاءمة التفسير بالمرادف أو الضد أو تفسير صيغة بأخرى، فكل ذلك لا يفيد في حصول المعنى، فهو من قبيل تفسير الماء بالماء، مثلا ما ذكره معجم الوسيط في مادة: وبر: وبِرَ البعير وبَرا: كان كثير الوبر، وأضاف المعجم الأساسي: أوبر: ذو وبر وبعير أوبر.
ومن أمثلة التعريف بالمرادف، نجد في المعاجم: عنفه: لامه وعيره ووبخه. ولكنها ألفاظ مختلفة فكل منها يحمل دلالات مختلفة عن الأخرى.
وفي مثال التعريف بالضد: الرفق ضد العنف والعكس صحيح، لكن الفهري يرى أن العنف ضده هو عدم استعمال العنف وليس الرفق، فهل الرجل عكس المرأة أو خلافها؟
أما أمثلة الاشتراك اللفظي فتتجلى في الخلط بين: علِم وعالَم في نفس المادة وعنف وعنفوان واعتبار نعل وأنعل ونعل مترادفات. وبالتالي فالمعاجم ساهمت في الخلط والغموض واللَبس عوض إزالتها.
خـلاصة:
إنها جملة معطيات تصور أزمة المؤسسة اللغوية العربية، وهي أزمة بنيوية ساهم فيها كل مجال بالقدر القليل أو الكثير، ويقترح الفهري شرطين للخروج منها وهما:
-القيام ببحث معجمي عربي عميق وطويل النفس، يوازيه آخر علمي يستفيد من الدراسات اللسانية المقارنة والحاسوبية الحديثة.
-العمل على خلق شراكة بين المؤسسات السياسية واللغوية والثقافية بمعية مؤسسات النشر والتجارة من أجل إنتاج عمل عصري متكامل.
* – هذا المقال في الأصل قراءة في بعض مضامين كتاب:
– عبد القادر الفاسي الفهري: أزمة اللغة العربية في المغرب بين اختلالات التعددية وتعثرات الترجمة، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2010.
[1] – علي قاسمي: علم اللغة وصناعة المعجم، مطابع جامعة الملك سعود، الرياض، ط. 2، 1991، ص. 3.
د. إبراهيم ايت المكي
باحث من المغرب
1 تعليق
1 التعليق
محمد
مارس 5, 2021, 11:09 صبارك الله فيك أستاذي الكريم
الرد