يُعتبر التعلم عن بُعد أحد المجالات النشطة للباحثين التربويين، حيث تتداخل فيه العديد من التخصصات الأكاديمية وتلعب فيه التقنية دورًا مؤثرًا في إعادة تشكيل الطريقة التي يحدث بها التعلم.
وعلى الرغم من الانتشار الواسع للمصطلح بسبب ظروف جائحة كورونا، إلا أن القليل من المقالات تناولت هذا المجال من منظور تاريخي شامل يشرح أسباب بزوغ نجمه بهذه الطريقة الساطعة والتحولات التي مر بها، يهدف هذا المقال لمناقشة ثلاثة محاور في هذا الموضوع وهي: التطور التاريخي، التعريف، والتغيرات الأيديولوجية.
يعود تاريخ التعلم عن بُعد لبدايات القرن الثامن عشر، ويمكن تصنيفه منذ ذلك الحين وحتى اليوم إلى ثلاثة أجيال حسب طبيعة التقنية والأفكار السائدة في كل جيل (Bozkurt, 2019).
الجيل الأول: المراسلة
لأن المواد الدراسية في هذا الجيل كان يتم إرسالها للمتعلمين عن طريق البريد العادي، سُمي هذا الجيل بالتعلم بالمراسلة، وعلى الرغم من استخدام مصطلحات أخرى من قبل المدارس الخاصة (الدراسة في المنزل) والجامعات (الدراسة المستقلة) إلا أن ما اُشتهر به هذا الجيل بين المؤرخين هو التعلم بالمراسلة، لقد كانت شبكة القطارات أرخص وأسرع وسيلة نقل يمكن الثقة بها من قبل المتعلمين والمؤسسات الأكاديمية، ولأن التقنية السائدة للتعلم في ذلك الوقت كانت استخدام المواد المطبوعة (الكتب والمجلات) فإن إرسالها للمتعلمين عبر شبكة القطارات كان أمرًا مناسبًا للمتعلمين والمؤسسات الأكاديمية.
إن معظم المتعلمين في هذا الجيل يتكون من رباة البيوت والعمال والمزارعين الذين تركوا التعليم النظامي (أو لم يدخلوه منذ البداية) وانخرطوا في التزاماتهم المهنية والاجتماعية والأسرية التي منعتهم من التفرغ للدراسة، وفي محاولة لتقليل الفوارق الاجتماعية الكبيرة بين طبقات المجتمع، وتقليل معدلات الأمية التي من شأنها أن ترفع المستوى المعرفي والاقتصادي للدول، أطلقت المؤسسات الأكاديمية هذا النوع من التعلم، ومن الأدلة القديمة على هذا النوع، الإعلانات التي ظهرت في الصحف الأمريكية (1728م) والسويدية (1833م) والألمانية (1850م) وهو ما يشير للمناطق النشطة في قارتي أوروبا وأمريكا الشمالية التي تبنت أنظمتها التعلم عن بُعد.
الجيل الثاني: الوسائل السمعية البصرية
لعب ظهور الراديو والتلفاز دورًا حيويًا في هذا الجيل، فلقد أصبح بإمكان المتعلمين تلقي المواد التعليمية عن طريقها بدلًا من انتظار وصولها عبر شبكة القطارات، ولم ينتهي عام 1946م حتى أصبح في الولايات المتحدة أكثر من 200 مؤسسة تعليمية تبث دروسها عبر الراديو، وأعقبه بسنوات قليلة تأسيس تلفزيون كلية شيكاغو للتعليم، ساهم هذا التطور في تقليص الوقت اللازم لإيصال المحتوى للمتعلمين، وخلق لأول مرة نوع من التواصل غير المباشر بين المتعلم والمعلم، وعلى الرغم من أن هذا التواصل كان في أدنى أشكاله، لكنه استمر بالتطور بصورة تصاعدية.
أصبحت هناك إمكانية الآن لاستهداف عدد هائل من المتعلمين بشكل يفوق بكثير الاعداد المستهدفة في الجيل الأول، وهذا ما جعل مصطلح الجامعة المفتوحة يبدأ بالظهور؛ لأن المحتوى (وإن كان محدود) لكنه أصبح مفتوحًا الآن لعدد هائل من المتعلمين الذين يستطيعون تلقيه من أي مكان، لم يعد توصيل المحتوى موضوع ذو أهمية، وانتقل التركيز على تصميم المحتوى نفسه بطريقة جاذبة للمتعلم تساعده على التفاعل مع المحتوى الذي يتلقاه، وهو ما سيكون النواة الرئيسة لولادة مجال بأكمله يسمى بعلم التصميم التعليمي (Instructional design)، وعلى الرغم من هذه التطورات، إلا أن النهج السائد هنا في التعليم هو نهج مرتكز على المعلم في تقديم المحتوى (Teacher-centered)، فيما يقتصر دور المتعلم على التلقي الذي أصبح يشار له في الأدبيات الحالية بالتعلم السلبي (Passive learning)، بلغ هذا الجيل ذروته حينما طرح مايكل جراهام مور نظريته الخاصة بالتعلم عن بُعد في عام 1972م والتي عُرفت باسم نظرية الدراسات المستقلة (Theory of Independent Study) وما يزال مور باحثًا نشطًا في المجال حتى وقت كتابة هذا المقال (M. Moore, 2020).
الجيل الثالث: الاعتماد على الأجهزة الرقمية
مع ازدياد الاعتماد على أجهزة الكمبيوتر وظهور شبكة الانترنت تغير المفهوم الخاص بالتعلم عن بُعد؛ فبسبب التطور التقني أصبح من الممكن التعامل مع عدد هائل من المتعلمين دون إهمال الاحتياجات الفردية المختلفة لكل واحد فيهم، وهو ما أدى لاستبدال النهج السائد في الجيل الثاني المرتكز على المعلم إلى نهج جديد يرتكز على المتعلم (Learner-centered)، فأصبح المتعلم في هذا الجيل قادر على التفاعل مع المعلم بصورة متزامنة (Synchronized) أو غير متزامنة (Asynchronous) كما هو مألوف الآن لدى المتعلمين في جيلنا الحالي، ومرة أخرى استمرت دوائر التركيز بالتغير من توصيل المحتوى والتصميم التعليمي فقط إلى إضافة عامل آخر سوف يأخذ اهتمامًا متزايدًا أكثر من أي وقت مضى وهو التفاعل بين المعلم والمتعلم وهو ما سمح بالتركيز على الاحتياجات الفردية الخاصة.
وبفضل تطور الأجهزة الرقمية، تطور إنتاج الوسائط التعليمية المتعددة (Educational multimedia)، وظهرت نظريات معرفية جديدة تُرشدنا لكيفية استخدامها بأفضل الطرق التي تساعد المتعلمين على التعلم، فيما صار يُعرف بالنهج المبني على الأدلة التجريبيةEvidence-based approach) ) (Mayer, 2002)، لقد أصبح بالإمكان دمج كل أشكال تقديم المعرفة السمعية والبصرية مع بعضها وتقديمها لعدد هائل من المتعلمين عبر مختلف الأجهزة الرقمية، مع القدرة على التعامل مع كل متعلم بصورة فردية بفضل الأفكار والمفاهيم التي ظهرت في هذا الجيل، مثل أنظمة إدارة التعلم (Learning management systems) والمقررات الإلكترونية المفتوحة واسعة الانتشار (Massive Open Online Courses) وتطبيقات التعاون عبر الانترنت (Online collaboration app) التي دمجت بين التعليم المتزامن وغير المتزامن وأداء المهام الفردية والجماعية في بيئة واحدة (Imran, Pireva, Dalipi, & Kastrati, 2016).
التعريف
من خلال النظر للتطورات الكبيرة في الأجيال الثلاثة يمكن فهم أسباب إرجاء التعريف، إن التطورات الكبيرة التي حصلت خلال فترة زمنية طويلة أدت إلى بروز مصطلحات أخرى مثل التعلم المفتوح، التعلم عبر شبكة الإنترنت، التعلم الإلكتروني، التعلم المستقل، التعلم بالمراسلة، التعلم في المنزل، التعلم المرن، التعلم مدى الحياة والتي تصف فترات زمنية معينة بالخصائص الموجودة فيها، يرى مور وزملاؤه (J. L. Moore, Dickson-Deane, & Galyen, 2011) أن التساهل في استخدام هذه المصطلحات بصورة مترادفة في الأدب التربوي أوجد صعوبة في ضبطها، فصارت التعريفات الإجرائية والسياقات هي التي تشير إلى المعنى، ولهذا يرى (Bozkurt, 2019) أن مصطلح التعلم عن بُعد يمكن أن يُشكل مظلة حاضنة لكل التعريفات التي تصف الجهود التي تتضمن تمكين المتعلمين من الوصول للمعرفة وهم في أماكن جغرافية بعيدة (J. L. Moore et al., 2011).
التغيرات الأيديولوجية
خلال الأجيال الثلاثة، حدثت تطورات أيديولوجية جوهرية، فلطالما كانت بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (Assembly, 1948) فيما يتعلق بحق الجميع في الحصول على تعليم مجاني بما يعزز حقوق الإنسان وحرياته عاملًا محفزًا لمختلف المؤسسات الأكاديمية بشأن نشر المعرفة المجانية لكل البشر دون قيود وبأقل التكاليف الممكنة، لقد كان مقدار المعارف التي يمكن الوصول لها خلال الجيلين الأول والثاني محدودًا مقارنة بالجيل الثالث، على الرغم من وجود فكرة نشر المعرفة للجميع، ووجود المبادرات من المؤسسات الأكاديمية المؤثرة في ذلك الوقت، لكن الافتقار للبنية التقنية التحتية أعاق نشر المعارف المجانية بصورة عابرة للحدود الجغرافية وقلص من مدى انتشارها (García‐Peñalvo, De Figuerola, & Merlo, 2010)، في بدايات الجيل الثالث أصبح تحقيق هذا الحلم ممكنًا بسبب نضج البنية التحتية التقنية على المستوى الدولي، ويمكن اعتبار قيام معهد ماساتشوستس للتقنية في عام 2001م بإتاحة جميع مواده التي يقوم بتدريسها لطلابه المنتظمين داخل الحرم الجامعي بصورة مجانية عبر الإنترنت، على أنه إعادة إحياء جديدة من المؤسسات الأكاديمية لمحاولاتها في نشر المعارف لجميع الناس وبصورة مجانية، ما دفع المزيد من المؤسسات الأكاديمية حول العالم لنشر بعض أو جزء من مقرراتها التي تقوم بتدريسها لطلابها بصورة مجانية عبر الإنترنت، لقد كان لهذا التطور الأيديولوجي الأثر العميق في مضاعفة مقدار المعرفة المجانية المنشورة عبر شبكة الإنترنت (Bishop & Verleger, 2013).
خاتمة
إن المتابع لمسيرة تطور التعلم عن بُعد خلال القرون الثلاثة الماضية، يرى بوضوح كيف استمرت التقنية بالتأثير الكبير على طريقة حدوث التعلم، وحين اجتمعت البنية التحتية التقنية مع المبادرات المؤسساتية لنشر المعارف بصورة مجانية، أصبح لدى البشر سلاح استطاعوا استخدامه أثناء جائحة كورونا، حيث لعب التعلم عن بُعد دورًا حاسمًا في استمرار العملية التعليمية وعدم توقفها، وأدى ذلك لتقديم التعلم ليس فقط لمن لا يستطيع إكمال دراسته بل لجميع الطلاب في المدارس النظامية، ورغم كل هذه النجاحات، فإن التعلم عن بُعد ما زال يشهد تحديات ومخاوف تتعلق بجودة المخرجات واتجاهات المتعلمين حوله ومواقف صُناع القرار بشأنه وحاجة البنية التحتية التقنية للمزيد من الاستثمارات من القطاعين العام والخاص، ومن غير المرجح أن تؤدي التطورات التقنية لحل كل هذه المشاكل، لأن التطور التقني يبقى مجرد وسيلة وليس غاية.
المراجع
Assembly, U. G. (1948). Universal declaration of human rights. UN General Assembly, 302(2), 14-25.
Bishop, J., & Verleger, M. A. (2013). The flipped classroom: A survey of the research. Paper presented at the 2013 ASEE Annual Conference & Exposition.
Bozkurt, A. (2019). From distance education to open and distance learning: A holistic evaluation of history, definitions, and theories. In Handbook of Research on Learning in the Age of Transhumanism (pp. 252-273): IGI Global.
García‐Peñalvo, F. J., De Figuerola, C. G., & Merlo, J. A. (2010). Open knowledge: Challenges and facts. Online information review.
Imran, A. S., Pireva, K., Dalipi, F., & Kastrati, Z. (2016). An analysis of social collaboration and networking tools in elearning. Paper presented at the International Conference on Learning and Collaboration Technologies.
Mayer, R. E. (2002). Multimedia learning. In Psychology of learning and motivation (Vol. 41, pp. 85-139): Elsevier.
Moore, J. L., Dickson-Deane, C., & Galyen, K. (2011). e-Learning, online learning, and distance learning environments: Are they the same? The Internet and higher education, 14(2), 129-135.
Moore, M. (2020). On a theory of independent study: Routledge.
كتابة: محمد علي آل مسيري
معلم حاسب متقدم بمدرسة فخر الدين الرازي المتوسطة
ماجستير تقنيات تعليم
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *