دشنت وزارة التعليم منذ عام تقريباً، النموذج الإشرافي الجديد في التعليم السعودي، وبدأ العمل بنموذج تمكين المدرسة والاعتماد المدرسي.
والذي يهدف إلى الدفع باستقلالية المدرسة ومنحها كافة الصلاحيات لتصبح قادرة على إدارة جميع عملياتها بنفسها، ويسعى أيضا إلى رفع جودة وكفاءة العمل المدرسي والاستغلال الأمثل لموارد المدرسة، وموارد الوزارة أيضا وتوجيهها إلى المستفيد الأول وهو الطالب. لكن مثل هذه المشاريع العملاقة تحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت مقرونة بالصبر حتى تظهر نتائجها. أحاول في هذا المقال للمجلة التربوية الإلكترونية سرد بعض النقاط التي يجب أخذها في الاعتبار عند تطبيق هذا المشروع والعمل به، حتى لا نبتعد بممارساتنا المهنية في المدارس وأروقة مكاتب الأداء عن الأهداف النبيلة التي وضعها المشرعون لهذا النموذج، وحتى ننجح في تمكين المدرسة.
أولا: تصحيح المفاهيم الخاطئة
قد تكون الصورة ضبابية عن هذا النموذج لدى بعض المنتمين إلى الميدان التعليمي، وقد تكون بعض الإجراءات التي طبقت تنفيذا لهذا النموذج أوصلت للميدان رسائل خاطئة. ولاحظت أن المشرعين لهذا النموذج ومن يديرون تطبيقه في أروقة الوزارة يرصدون مثل هذه المفاهيم الخاطئة ويحاولون بالتحديث المستمر للأدلة تصحيحها، وتوضيح بعض النقاط المبهمة وتعديل بعض الإجراءات التي ربما شكلت عبئاً على المنفذين وهذه مرونة تحسب لهم. لكن مع ذلك هناك دور على مكاتب الأداء وعلى مديري المدارس أن يقوموا به في تثقيف الجميع بهذا النموذج. هنا بعض هذه المفاهيم:
إلغاء الاشراف التربوي!!
من هذه المفاهيم الخاطئة التي انتشرت هو إشاعة “إلغاء الاشراف التربوي”, الذي جاء نتيجة لإجراءات تطبيق النموذج على مكاتب الاشراف وإدارات التعليم، وساهم فيه أيضا الرسائل الخاطئة عبر وسائل التواصل من بعض المهتمين بالتعليم. ففهم البعض أن الحبل في المدارس أصبح على الغارب، وأن مسطرة مكتب الاشراف التي كانت تضبط العمل بالمدارس سوف تغيب للأبد، لكن الحقيقة أن هذه المسطرة وضعت بيد مدير المدرسة ووكلاءه ولجان المدرسة، وعمليات الإشراف التي كانت تجري في مكتب التعليم ستنطلق في المستقبل من المدرسة، والمشرف أصبح أقرب إلى الفصل الدراسي، ومعيار الجودة أصبح مرتكزا على الطالب، والمحاسبية لن تغيب، والكفاءة والاتقان والعمل الجماعي هي قيم أصيلة في النموذج الجديد. وهنا لابد من التمييز بين “الإشراف التربوي” هيكلا إداريا ضمن هياكل الوزارة والإدارة، و”الإشراف التربوي” عملية إجرائية من عمليات التعليم والتعلم، وهي العملية التي لا يمكن أن يستقيم بدونها نظام تعليمي. وهذا مربط الفرس في التغيير الجديد في تعليمنا، فعملية “الإشراف التربوي” جزء أصيل في النموذج الجديد، لكنها أصبحت مسؤولية طاقم المدرسة.
التغيير مسؤولية فردية!!
لا يمكن تحميل المسؤولية الكاملة عن مؤشر من مؤشرات الأداء في المدرسة للمسؤول المباشر عنه فقط، بل هي مسؤولية كل من يمتلك التأثير في نتائج هذا المؤشر. فمسؤولية تدني نتائج الطلاب في الاختبارات الوطنية للعلوم للصف السادس مثلا لا يتحملها معلم هذه المرحلة فقط، بل هي موزعة بين معلمي التخصص في تدريسهم للطلاب في السنوات السابقة، وفي دعمهم لزميلهم معلم هذه المرحلة لتجاوز هذا التحدي، وهناك دور يجب أن يؤديه معلمو التخصصات الأخرى، ومسؤول التطوير المهني بالمدرسة، وهناك أدوار أخرى لإدارة المدرسة وللموجه الطلابي ولأولياء الأمور كذلك. المسؤولية في هذا الشأن مسؤولية جماعية.
ثانيا: تثقيف الميدان بنموذج تمكين المدرسة
جاء النموذج الإشرافي الجديد ونموذج تمكين المدارس بتغييرات جذرية كبيرة في بنية النظام التعليمي وبتعديلات هيكلية فيه، وأضاف هذا النموذج وغيّر من المهام الموكلة إلى المنتمين إلى الميدان التعليمي. كما أن أهداف النموذج ومقتضياته ومعايير الأداء التي يسعى لها تفوق ما كان مطلوبا في السابق، وتركيز العمل فيه مختلف إلى حد ما عما كان في سابقه. كل هذا يقتضي تثقيف كل المنتمين إلى المدرسة ومن لهم علاقة بها بهذا النموذج وما جاء به حتى يفي الجميع بالدور المطلوب منه.
ثالثا: التركيز على الطالب
يقود النموذج الجديد المدرسة للتركيز على الطالب وعلى نواتج التعلم. وأقتبس هنا مقولة لمدير مدرسة أمريكي يقول:” الأمر الأهم هو إبقاء الأمر الأهم هو الأهم”. والطالب وتعلمه هو الأهم هنا. والتعلم هو نقطة التركيز، ومحور العمليات، وأساس التغيير والتطوير والتحسين في النموذج الجديد في تعليمنا. كما أن تقييم المدرسة وتصنيفها ومنطلق القرار فيها وإليها سيكون مرتكزا على نتائج التعلم. وهذا النوع من القيادة في التعليم له أدبيات وأفكار وأسس ومنهجيات مختلفة يجب أن يُلم بها كل منتمٍ للمدرسة اليوم حتى يستطيع الوفاء بدوره ويتكيف مع التوجه الجديد.
رابعا: هيكلة المدرسة
جاء النموذج الجديد بتغييرات جوهرية في بنية النظام التعليمي، وفي تركيز عملياته، وأصبحت المدرسة مستقلة، وتدير عملياتها بنفسها، وهذا يعني أن مهاما جديدة أضيفت لطاقم المدرسة، ومهام أخرى كانوا يتقاسمونها مع غيرهم أصبحت مسؤوليتهم لوحدهم. وأقترح عطفا على ذلك أن يضاف إلى هيكلة المدرسة أوصافا وظيفية تقوم بهذه المهام الجديدة. فالعمليات الإشرافية التي انتقلت من المكتب للمدرسة تمثل لب العمل في النموذج القادم، وتتطلب مختصا متفرغا يتولاها. وهذا موجود في النماذج التعليمية المشابهة للنموذج التعليمي الجديد لدينا، مثل النموذج النيوزيلندي، إذ يتولى “القائد المهني” مهام العمليات الاشرافية في المدرسة بما فيها تقويم التدريس، وتدريب المعلمين، ومتابعة عمليات التعليم والتعلم.
خامسا: تأهيل مديري ووكلاء المدارس
لكل زمن دولة ورجال. والتغيير الجديد في التعليم يتطلب نوعية مختلفة من مديري المدارس. فمسؤولية إدارة المدرسة تضاعفت، والمهام اختلفت وزادت، وبوصلة التركيز على التدريس والتعلم تتطلب مجموعة من المهارات والكفايات يجب توفرها فيمن يدير دفة القيادة في المدرسة ومراعاتها عند عمليات الاختيار للهياكل الإدارية في المدرسة. ويجب أيضا على المسؤول تدريب وتأهيل مديري ووكلاء المدارس على هذه المهارات والكفايات، حتى يتمكنوا من الوفاء بالمهام المنوطة بهم. سأورد هنا بعض هذه الكفايات والمهارات، مستندا في ذلك على ما أوردته في هذا الشأن خبيرة التعليم النيوزيلندي فيفيان روبنسون في كتابها “القيادة المتمركزة على الطالب”:
أ. الخبرة الواسعة والفهم الكافي بالتدريس:
أول هذه الكفايات في وجهة نظري هو الفهم العميق والخبرة الكافية في التدريس والتعلم. فكيف لمن يريد أن يجوّد عمليات التدريس والتعلم بالمدرسة أن يفعل ذلك وهو يفتقر للخبرة في الحكم عليها وفي كيفية تطويرها وتحسينها. وامتلاك هذه الخبرة لا يكفي أيضا إن لم توضع موضع التطبيق. تأهيل القادة في هذا الجانب مهم جدا، لكن الأهم منه هو تأهيلهم في كيفية الاستفادة من المعلمين “الخبراء” في المدرسة، في جوانب التدريس والتعلم، واستثمار إمكاناتهم في قيادة التغيير في هذا الجانب.
ب. التفكير الاستراتيجي:
تتطلب المرحلة القادمة من إدارة المدرسة كفاءة في رسم توقعات أداء المدرسة على المدى الطويل وفقاً لواقعها الحالي، وبالاستفادة من الإمكانات المتاحة، المادية والبشرية. وهذا يتطلب جودة في التخطيط وبناء الأهداف وتحليل البيانات واستثمار موارد المدرسة الاستثمار الأمثل لتحقيق هذه التوقعات. المدرسة في هذا الجانب هي أحوج ما تكون إلى “عقل” يستحضر أسئلة التطوير الثلاثة: “أين نحن؟ وأين نريد أن نصل؟ وماذا نحتاج كي نحقق ذلك؟”، وبالتالي القدرة على تخيل الصورة الكبيرة المأمولة للمدرسة وطلابها ومعلميها، والاستعانة بالجميع ومساعدتهم لرسم هذه الصورة. يجب أن يطوّر مديري المدارس ووكلاؤها مهاراتهم في هذا الجانب، وتقدم لهم برامج تدريبية فيه، ويكون جزءا كذلك من آليات اختيارهم وتقييمهم.
ج. مهارة حل المشكلات:
يضع النموذج الجديد المدرسة أمام مسؤولية قيادة التغيير في أداء المعلمين والطلاب. وهذا التغيير يتطلب قدرة فائقة عند مسيري المدرسة على تحديد مواضع الخلل، وعلى اقتراح الحلول لهذا الخلل، ووضع هذه الحلول موضع التطبيق، ثم تقييم أثرها على المشكلة، إضافة إلى قدرة فائقة في إشراك جميع ذوي العلاقة بالمدرسة في كل مراحل التغيير هذه.
د. مهارات العلاقات:
يحتاج القائد/المدير في كل أنماط القيادة إلى تحسين مهاراته العلائقية (مهارات العلاقات) لزيادة كفاءته القيادية. وعند قيادة التغيير في المدارس، فإن إدارتها بحاجة لمهارة علائقية جيدة تمكنهم من إقناع الجميع بمواطن الخلل، وبالحلول التي يتطلبها التغيير، وللتعامل مع الخلافات والاعتراضات ومقاومة التغيير التي قد تنشأ في بيئة المدرسة بناء على قرارات المدرسة للتغيير والتحسين.
كما أن شحذ همم الطلاب والمعلمين إلى الأهداف والتوقعات التي تضعها المدرسة يتطلب أيضا مهارات علائقية فائقة. وهذه المهارات مطلوبة أيضا لبناء شراكات فاعلة مع الأسرة والمجتمع لدعم أهداف المدرسة وخططها.
سادسا: تحسين البيئة المادية للمدرسة
الأهداف الطموحة التي يسعى نموذج تمكين المدرسة لتحقيقها سترى النور بإذن الله في ظل الدعم الكبير الذي يجده التعليم لدينا من حكومتنا الرشيدة. ولعل التغييرات الهيكلية الكبيرة التي جرت وستجري في الفترة القادمة ستُذهب عن كاهل الوزارة حملاً مادياً كبيراً ربما يوَجه مستقبلا في صنع بيئة مدرسية جاذبة وفاعلة. أقصد بذلك أن يتوفر في المدرسة ما يجذب الطلاب إلى المدرسة ويمكنهم من ممارسة كل أنشطة التعلم، ويضمن لهم حضورا ذهنيا عاليا، ويساعد المعلمين كذلك على تنفيذ طرائقهم وخططهم، وأنا أدرك تماما أن المدرسة كما يخطط لها في 2030 ستكون أفضل مما نتصور، فالمشرّع التعليمي الذي جاء بهذا النموذج الجبار لن تغيب عنه مثل هذه النقطة الجوهرية.
ختاما: أود التأكيد على أن علينا، نحن جمهور التعليم والمهتمين فيه، الصبر قبل استخلاص نتائج هذه التجربة، فالتغيير في مثل هذه الأمور يتطلب سنوات طويلة، لكنه حتما سيضع مدارسنا في العالم الأول كما تطمح قيادتنا الرشيدة، ونحن الآن في مقتبل الطريق وحتما سنصل بإذن الله.
الصورة: من حساب وزارة التعليم_عام
كتابة: هاشم علي الصعب
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *